للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال أمير المؤمنين: غفر الله لك، غفر الله لك، وما أعجبُ لصبرك، فأمُّك أسماء بنت أبي بكر الصديق "ذات النِّطاقين" وأبوك حَوَاريُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته الزبير بن العوام، فرضى الله عنك وأرضاك يا أبا عبد الله.

فما كدنا حتى أقبل أبو الحكم، وهو شيخ نصرانيٌّ طويل فارعٌ مَشبوحُ (١) العظام، قد تخدَّد لحمه، أحمرُ أزْهرُ أصلع الرأس إِلا شعرات بيضًا قد بقيت له، كثُّ اللحية طويلها، لو ضربتها الريح لطارت به؛ ودخل أبو الحَكَم وراء لحيته وهي تسعى بين يديه، حتى وقف على عروة بن الزبير فقال: لابدّ مما ليس منه بُدٌّ يا أبا عبد الله، وإني والله لأرحَمك وأخشى أن يبلُغ منك الجهد، فما أرى لك إلا أن نسقيك الخمر حتى لا تجد بها ألم القطع. قال عروة: أبْعَدَكَ الله من شيخ، وبئس والله ما رأيت! إنا والله ما نحبُّ أن يرانا الله بحيث نستعين بحرامه على ما نرجو من عافيته! قال أبو الحكم: فنسقيك المُرْقِدَ (٢)، يا أبا عبد الله! قال عروة: ما أحبُّ أن أُسْلَبَ عضوًا من أعضائي وأنا لا أجد أَلَم ذلك فأحتسبه عند الله.

قال أبو الحكم: وقاك الله يا أبا عبد الله! لقد ألنت منا قلوبًا كانت قاسية؛ ثم التفت (أبو الحكم) إلى رجال سود غِلاظ شداد قد وقفوا ناحية فقال: أقبلوا، فأقبلوا. . . فأخذتهم عينُ عروة فأنكرهم فقال: ما هؤلاء؟ فقال أبو الحكم: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب (٣) معه الصبر، قال عروة: أما تُقلع أيها الشيخ عن باطِلك، انصرفوا يرحمكم الله، وإني لأرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، ولا والله ما يسعني أن هذا الحائط وقاني أذاها فاحتمل عني ألمها. أقبل يا أبا الحكم، وخذ فيما جئتَ له {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.


(١) مشبوح: عريض.
(٢) المُرْقِد: شيء يشرب فيُنَوَّمُ مَنْ شربه ويُرْقِدُه.
(٣) عزب (من باب ضرب ونصر): بَعُدَ.