الثاني: أن هذا النص يصح لغة وأداءً وبيانًا. وإذا صحّ كذلك فمن الاستبداد أن يُرَدّ على الهوَى.
الثالث: مخالفة نهجنا في ذلك لنهج علماء الفرنجة (المستشرقين). وجوابنا على الترتيب من تحت إلى فوق:
إننا أَدْرَى بأساليب هؤلاء الأعاجم -الذين اتخذوا العربية عملًا من أعمالهم- من أن نخالفهم في الجيّد من مذاهبهم، فتحرير النص ومراجعته على جميع النسخ التي ذكر فيها وما إلى ذلك، عملٌ ضرورىٌّ لكل باحث. ولكن هؤلاء الأعاجم تقعد بهم سلائقهم عن معرفة أسرار العربية، فلم يتجاوزوا الوقوف عند النص المكتوب، وذلك لعجزهم عن بيانها. فلما عرفوا ذلك من أنفسهم، كان من أمانتهم أن يتوقفوا، فلا يقطعون برأي في صواب أو خطأ. وهي أمانة مشكورة لهم.
ولكن العربيّ إذا أخذ بأسبابهم، فلابُدَّ له من أن يهتدى بعربيته إلى ما عجزوا عنه بأعجميتهم، فكذلك فعلنا في كلمة ابن شبرمة وقلنا "إنه نصٌّ عربيٌّ مُظلم النور". وبيان ذلك أنه ليس من قياس العربية أن يجمع "غبار" على "غبارات" ولا غيرها من الجموع، وأن ابن شبرمة لم يُردْ تحقيرَ العلم نفسه فيجعل ما بقي منه "غبارًا"، وإنما أراد أنه بقي من العلم شيء هو من صحيح العلم، ولكنه وقع في صدور رجال من أهل الباطل يفتونَ الناسَ، يضِلّ بهم من يضِلُّ إذ يحسبونهم لا ينطقون بباطل ما داموا أصحاب فقه ودين وعلم. ولم تكن الشهادات وألقابها عُرِفتْ لعهد ابن شبرمة حتى تكون هي التي تقدر العلماء وتميزهم للناس، وإنما كانوا يتميزون بالعلم، فإذا لم يكن عندهم علم لم يعدهم الناسُ في العلماء. ثم إن الغبارَ لا يمكن أن يُوكى (١) عليه في وعاء حتى يصح أن يجعل -ما أغلقت عليه صدورهم من بقية العلم- غبارًا. فلو صح نص العقد لكان المراد تحقير العلم وأصحابه جميعًا.