صبابته. . . أَرَقَّ فتنة في أحلى جوٍّ في سِحر الليل المضئ في أجمل فن الحضارة في أَحْفَل الليالي باللهو والعبث، والضحكات التي تتردد بين أضواء الكهرباء حتى كأنها أمواجٌ من الضوء تضحك ضحكها -لم يستطع ضَبْط تلك الأمواج الفرحة المعربدة في إحساسه الشاعر، فبدأ يترنَّم:
أين من عينيَّ هاتيك المجالى ... يا عروس البحر يا حلم الخيالِ
أين عُشَّاقُك سُمَّار الليالي ... أين من واديك يا مهد الجمالِ
ثم انطلق يصف عاطفته وجو عاطفته وعطر عاطفته، كل ذلك بألفاظٍ غزلةٍ عاشقةٍ، تتنفس أنفاسها من المعاني المرحة، حتى في بعض اللوعة المستكنَّةِ وراءَ نفسه، والتي استعلنت في قوله:
"أنا من ضيَّع في الأوهام عمره"
بعد أن قال:
ذهبيُّ الشعر شرقي السماتِ ... مرح الأعطاف حُلوُ اللفتات
كلما قلت له: خذ، قال: هات ... يا حبيب الروح، يا أُنس الحياة
كل ذلك والشاعر في مرح ونعمة وخيال وافتتان، وكأنَّه نسى الدنيا التي ولد فيها كما "نسى التاريخ أو أنسى ذكره". . . . ولكن لا يلبث يتلفت بعد ذلك تلفتًا مؤثرًا عجيبًا، هو دليل الشاعريّة الصحيحة التي اشتمل عليها تكوينه العصبي. . . يقول:
قال: من أين؟ وأصغى ورنا ... قلت من مصر، (غريب) هَهُنا
(غريب)، هذه كلمة النفس الشاعرة في مكانتها من ألفاظها وفي أقصى مدِّها من التأثير، إنه حرف يبكي من الغربة والذكرى، ولو سقطت هذه الكلمة من الشعر لسقط كل الشعر ولسقط معه رأينا في العوامل التي عملت شعر "على طه" بعد رحلته إلى أوربا، لو قال:(من مصر) وسكت، أو أتى بذلك الحشو الذي لا معنى له، والذي يكثر في شعر الضعفاء، لانسلخ عن الشعر إلى سؤال يتلقاه المرء من فضولي قائم على طريق السابلة، وجواب استخرجه الفضول