ما نفْعل نحنُ من التجاهل للآثار الأدبيةِ وقلّة الاحتفال بتزويد الناشيء بمادّتها التي تحفظها لتكون أبدًا على مدِّ الذاكرة وفي طلب اللسان، ولو أنت سألتَ أي مُتعلِّم من أهل الأمم الأخرى أن يُسمِعك من روائع شعر أُمته ونثرها وحديث بلغائها لاحتفَلَ لك بالكثير الذي تظنُّ مَعَه أنه إنما أعدَّ لك الجواب لعلمِه أنك قد أعددتَ له السؤال. فلو أنتَ جئت بعدَ ذلك إلى أحد المثقَّفِين المكثرين المتنفِّخين من المتعلمين عندَنا وسألته مثل ذلك لنَحا إليك بَصَرَه فأتأرَ (١) النظَر فابتسمَ فضَحكَ فاستهزَأ بك فولاك ظهره فمضى يعجب من غفْلتك وحماقتك وقلّة عقلك.
وإن بعضهم ليقول: ليس لنا ما لهم، أَين للطالب المصري أو العربي ما يغريه بالقراءة كما يغرى شكسبير وملتون وبيرون وشيللي وفلانٌ وفلانٌ من الشعراء والكتاب؟ بَلى أين؟ وإن يكن هذا كله حقًّا فافترضناه كذلك، فليس يكون لنا مثل شكسبير وأصحابه إلا باستيعاب قديم كتابنا وشعرائنا، والحرص على آثار مُحْدَثيهم، فإذا كان ذلك أخرج الشَّعْبُ يومًا أمثالَ هؤلاء لمن يلينا من أهل أمتنا. وإلا فإننا سائرون إلى ضعف أبدًا مادُمنا نرَى أن الطالب لا يطيقُ أن يستوعب من شعر البحترى إلا قصيدة واحدة ومن المتنبى مثلها، ثم يكون ذلك آخر عهده وأوله بدراسة الآثار الأدبية العربية.
إن الحفظ الأول للآثار الأدبية الرائعة قديمها وحديثها هو الذي يخرج الأديب والكاتب والشاعر. انظر إلى المنفلوطي والرافعي وشوقي وحافظ والبارودي والزيات وطه حسين، كل هؤلاء لم يكونوا كذلك إلّا لأنهم نشأوا وقد حفظوا القرآن أطفالًا فحملهم ذلك على متابعة حفظ الآثار الأدبية الجليلة، ثم حفز هذا المحفوظ ما انطووا عليه من الطبيعة الأدبية التي استقرَّت في أنفسهم وأعصابهم، فلما استحكموا استحكمت لهم طريقتهم في الأدب والشعر والإنشاء، ولولا ذلك لما استطاعوا أن يكونوا اليوم إلا كما نرى مِن سائر مَنْ تخرجهم دور التعليم بالآلاف في كل عام ينقضي من أعوام الدراسة.