ولو نشر اليوم فيلسوف من محبي الحكمة والعاملين عليها الذين أفنوا أعمارهم في طلب الخير والفضيلة والحق والجمال، وجعلوا عملهم هداية الإنسان إلى أسبابها وسلكوا له سبلها، ثم نظر إلى هذه الحقبة من عمر الإنسانية فما تراه قائلًا في صفة الإنسان وما فيه من العون على دَرك هذه الحقائق، والتحلي بها في حياته؟ أم تراه يعرف الصورة وينكر المعنى؟
المدنية الأوربية الحديثة هي التي استطاعت أن تنفذ بالعقل في ضمير الحياة تستنبط منه ناموس الحياة التي تدب على الأرض ومع ذلك فهي التي سلبت هذا العقل قدرته على الخضوع للروح لتمده بالنور المشرق الذي يستضيء به في رفع الإنسانية درجة بعد درجة إلى مراتب الملائكة، أي إلى مرتبة الروحانية الصافية التي تنهل أضواؤها على النفس والقلب والروح، فتروى من فيضها، وترث من ذلك نورًا ورحمة وسكينة، وتنبت غرسها الإلهي الذي يجنيه الإنسان هداية وعدلًا وسعادة، فتتضاعف به الحياة حتى يقوى الخير فيها ويضوى الشر.
لقد أخفقت هذه المدنية في سعيها لخير الإنسان، وأثبتت بكل دليل أنها مهما تكن أحسنت إلى الإنسانية فلم تحسن مرة واحدة أن تضبط نوازع النفس، وتردها إلى الطريق الواحد الذي ينبغي أن تصدر عنه، حتى تكون كل أعمالها نقية طاهرة متشابهة. ذلك الطريق هو طريق الروح الذي لا يتم لعمل تمام ولا يظفر بخلود أو بقاء، إلا أن يكون فيه مس الروح وطهارة الروح، وقدس الروح.
أطلقت هذه المدنية في الدم الإنساني كل ذئاب الشر والرذيلة، فخرجت من مكانها جائعة قد سلبها الجوع كل إرادة تحملها على بعض الورع الذي يكف منها، فعاثت في إنسانية الإنسان حتى جُنَّ، وتنزَّى في الأرض وحشًا يجعل شريعته المقدسة تنبع أحكامها من معدته، ومن أحكام هذه المعدة ومطالبها، وكذلك انقلب النظام الاجتماعي في العالم من نظام روحي عقلي سام، إلى نظام اقتصادي تجاري ضار، الآكل والمأكول فيه سواء، لأن النية انعقدت في كليهما على الافتراس، وما الفرق بينهما إلا فرق القوة التي أعدت هذا للظفر، وأسلمت ذلك إلى العجز، فدفعت به إلى رحى تدور بأسباب من الطغيان والفجور.