للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إن الكون لا يصلح إلا على معنى الأقوى والأضعف! هذا حقٌّ لا يمارى فيه إلا مكابرٌ أو مبطل أو أحمق. ولكن يبقى ذلك العمل الإنسانيّ الذي يثبت للإنسان معاني النبل المنحدرة في روحه من نبل النور الأزليّ الذي بعث الحياة بعثًا في نفسه وفي أعماله، وبهذا العمل وحده يعرف الإنسان معنى السعادة في السراء والضراء، وفيما أرضي وما أسخط، وتكون حاله في الحالين واحدة، وذلك بأن تتسع روحه بالواجب الاجتماعي الروحي الذي يتراحب بإنسانيته في الكون كله، فتقع اللذة منها موقع الألم، وينزل الألم في منزل اللذة، وتمسح النظرة السامية عن الوجود كل الغبار الأرضي الذي يغطي محاسن الحياة وتنير الكلمة ظلمة النفس: الحمد لله فيما سر وما ساء.

والعمل الإنساني المستمد روحه من الجزء الإلهي في الإنسان هو العدل والمساواة، وقد جعلت الحضارة الحديثة معنى العدل والمساواة صدقة يتصدق بها أغنياء قوم على فقرائهم، وأقوياؤهم على ضعفائهم، لا على معنى الصدقة في إخلاصها لله ثم للإنسانية ولكن على معنى التخفف من تعب الغني وتعب القوة.

أما حقيقة العدل والمساواة، فهي عمل الإنسان الأقوى في رفع الإنسان الأضعف إلى مرتبته، فلا يزال هو يرتفع بقوته، ولا يزال الضعيف يسمو معه لأنه معقود الأواصر به. وإذا كان ذلك هو القاعدة، فالاجتماع كله سام ذاهب إلى السمو، ولا يكون فيه معنى للطبقات إلا على معنى التدرج، ولا يكون التدرج إلا على تماسك وتواصل، وليس تماسك ولا تواصل إلا على حرص الأعلى على التعلق بالأدنى، وكذلك لا يرتفع شيء من المجتمع لأنه أعطى القدرة على الارتفاع، ولا يسقط الشيء الآخر منه لأنه لم يجد ما يتعلق إذ حرم هذه القدرة أو زويت عنه أسبابها.

وقد جعل الإسلام من أول أمره غرضًا للمسلم لا يرضى منه غيره، ورد معنى الإسلام إليه، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقاعدة وقال للناس: اعملوا: فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه أزر بعض. والإيمان لا يعرف الغنى والفقر، والقوة والضعف، والمراتب الحيوانية التي طبعتها الطبيعة على تنازع البقاء وغلبة الأقوى،