الحضارة في إيجاد حل جديد لمشكلة الإنسان العامل المنطلق في أعماله بسرعة وكدٍّ وإرهاق وعناء، فاتخذت فن العقل السامي عبدًا تصرفه في إنشاء لذات الحياة إنشاءً عبقريًا تخشع لسلطانه النفس خشوعًا راضيًا، ثم تمشي في جنّاته. تأْبى أن تجد راحتها إلا راحة فيها ذلك السحر الناعم الرقيق الفاتن، الذي يصنعه بنان مؤنث يقول للأشياء كوني جميلة، فتكون.
وأعطت العين للمرأة أشواقها المستبدة، وزَينت المرأة للعين متاعها المتجدد، فاستيقظت الغرائز كلها من هزة الأشواق وحب الاستمتاع، وانحدرتْ في دم الرجل قطرات الفتنة المؤنَّثة، وسطعت في كيانه كله نفحات العطر المعربد، وألقت المرأة ظلها على كل شيء ألوانًا تتخايل بالفن المنسَّق البديع، وصبغت كل شيء في حلاوة أنوثتها، حتى لم يبق للرجولة ولا للإنسانية هوًى في الحياة إلا وهو من المرأة وإلى المرأة وفي سبيل المرأة.
وصارت المرأة هي المحور الذي تدور عليه الإنسانية في فلك الشهوات الضارية التي تنزع منازعها في حياة الإنسان باقتدار وقسر، وسار العالم كله على ذلك حتى ما يُحس ذو شعور أنه يعمل من أجل المرأة، مع أنه ما يعمل عامل إلا من أجلها. فهو في نشوة متصلة لا تنقطع في عمله، لأن الغرائز المنتشية هي التي تحكم وتصرّف، وبذلك لم يبق له من الفكر ما يستطيع به في هذا الأمر أن يتبين حقيقة التيار المسكر الذي يتدافع به في حياته.
أصبحت الحضارة الأوربية بعد ذلك فنًا جميلًا يتوالى فيه زخرف الحسن مبعثرًا ومنتظمًا، لأن الأعمال كلها قد احتملتها إرادة واحدة، هي إرادة جعل الحياة أجمل مما هي لتكون أمتع للعين والقلب والنفس والغريزة، مع إسقاط مطالب الروح السامية المتحررة من استعباد الشهوات.
ومن عجيب تصريف القدر في الحياة أن يجعل أعظم شيء فيها هو أقل الأشياء حظًّا من الحياة، فالروح التي هي أعظم ما وجد في الحياة، ترجع في غمرة اللذات والشهوات وأمواج الغريزة الطاغية، أقل ما وجد في الحياة، حتى ما يكون لها نصيب منها إلا ذلك الجو الأغبر القائم في عزلة موحشة، بعيدة عن