للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يجنبَ الشيطانَ ما يرزُقني، فكنتَ أنتَ يا بُنيّ دَعوتي، فادعُ ربَّك يا جُوان لأمك التي حملتك وهنا على وَهن.

فابْكِ ما شئتَ على ما انقضَى ... كل وَصْل مُنْقَض ذاهبُ

لو يردُّ الدمعُ شيئا، لقد ... ردَّ شيئا دمعُك الساكِبُ

فأقول: "يا أماه لقد أفزعتِني! " فتقول: "اذهبْ يا بُنيّ "لو تُركَ القَطَا ليلًا لَنام" (١). ثم تشيحُ وتنصرفُ، ولا والله ما قدرتُ منها على أكثر من أن أسألها فتجيبني بمثل ما أخبرتُك. فبالله، يا أَبَهْ، لا تدع أمي تموتُ بحسرة تتساقط عليها نَفْسُها! ارحمها يرحمك الله.

ويذهبُ جُوان ويَدَعُني لما بي، ويأخذني ما حَدُث وما قَدُم، وكيف ولم أُنْكِر منكِ يا كلثمُ شيئًا منذ رجعت من غيبتي بالكوفة؟ وإني لأدْخُلُ عليها فتُدَاعبُني وتضحك لي وتذهبُ بي في لهوها مذاهبَ، ولا والله إن وقعتُ منها على مَسَاءة تضمرها أوهمّ تكتمه، وكأن الحياة قد منعتْ دونها غِيَرَ النفس فهي لا تتغير. وهذا جُوان يقول، فلئن صَدَقَ لقد كذبتني عيناي وكذبَ عليّ قلبي، وإن كلثم لَتلهُو بي وتتلعبُ وأنا في غفلة عن كُبْر شأنها وأساها! وأذهب من ساعتي أدور في الدار أنظر، فإذا كل شيء أراهُ قد لبس من همّ نفسي غلالة سوداء نشأت بيني وبينه، وإذا أيامنا المواضى قد بُعثتْ في أَسْمال هلاهيل تطوف متضائلة في جنباتِ البيت وهي تنظرُ إليّ نظرة الذليل المطرَّد المنبوذ، وإذا كلثم قد خرجت إليهنَ كاللبؤة المُجْرِية (٢) رِيعتْ أشبالُها، وإذا أنا أسمعُ همهمة كأنين الجريح تنفذُ في أذنيّ من حيثما أصْغَيتُ، وما هو إلا أن أراني في فراشي قد توكأتُ على مرفقي، والغشيةُ التي أخذتني تنقشعُ عني شيئا بعد شيء. وبعد لأي ما ذكرت ما كان من حديث جُوان كما كان، فنهضت من مكاني أَطلب كلثم في غِرَّتِها حيث هي من البيت.

وقصدت مقصورتها فإذا هي قد أجافت الباب (٣)، فذهبت أفتحه وإنّ يدي


(١) هذا مَثَل، يضرب لمن يتنبه لنواذر الشر فيأخذ حذره.
(٢) المجرِية: ذات جِرْو، وهو ولدها.
(٣) أجاف البابَ: رَدَّه عليه.