ونشوة وإرباءٌ (١) على القديم، وفي القديم هيبة وذهول وتقصير عن الجديد، والصراع بين القديم والجديد هو صراع على الحياة وعلى البقاء وعلى الخلود، ولذلك لم يخلُ وجه الأرض قط من نِزَال دام مفزع بشِع بين هذين الجبارين: الجبار الآتي الذي يريد أن يستأثر بالحياة، والجبار الراحل الذي يلتمس لجبروته الخلود. ولا تزال الدنيا دنيا ما اصطرع هذان الجباران، فإذا سكن ما بينهما فقد انطفأت يومئذ جمرة الحياة، ولم يبق إلا رمادها.
ونحن اليوم أحوج ما كنا إلى حدّة الصراع بين الجبارين: جبار الشباب وجبار الهرم، لأن الحياة التي حولنا تريدنا على ذلك، إذا أغفلنا مطالب الحياة الإنسانية نفسها، والتي لا بقاءَ لها إلا على مكاره النزاع والنزال والمصاولة. ولكن يخيَّل إليَّ أن جبارنا هذا الشاب لم يعرف بعْدُ أن اتخاذ الأهبة للقتال شيء لا غنى عنه لمن يريد أن تكون له العزة والغَلبة، وأنه ينازل جبارًا سبقه إلى الدنيا فعرفها وخَبرها واستعدَّ لها، وصرف همه إلى درسها وتمحيصها، وأنه قد بذل في إبان شبابه من جُهد التحصيل والاستعداد، ما غفَل هو عن مثله بين اللهو والعبث والآراء غير الممحصة، وأخْذ الدنيا على أهون وجهيها وأيسرهما، وعلى أن الصدق فيما قاله أسخف قائل:"اضحك يضحك لك العالم"! !
ليمى معنى الصراع بين الجديد والقديم: هو أن ينازل أصغر الخصمين وأقلهما تجربة، أكبرهما وأوفاهما تجربة، وهو يضمر له في نفسه الإزْراءَ به والتحقير له والاستهانة به وبسابقته في الحياة، كلا، بل هو يحرص أشد الحرص على فهم خصمه، وعلى معرفة حيله، وعلى درس قوته ومواطن الضعف فيها، وعلى أساليب معالجته للأشياء التي حازها بالنصر والغلبة على من سبقه. وذلك يقتضيه أن يجعل صدر أيامه وريِّق شبابه وقفًا على الدرس والتحصيل ورياضة النفس، وتربية القُوَى، وتعهُّد نفسه في مراشدها وتجنيبها مغاويها، فإذا فعل كان أهلا لمن ينازله، وكان خليقا أن يكتب له النصر عليه، ولكن شاء الله أن يسلك جبارنا الشاب أضلَّ الطريقين.