للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبعد ليال أفضتْ بنا المسالك إلى "الرَّبَذَةِ" التي بها قبر أبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه، فلم يبق بيننا إلى المدينة سوى ثلاثة أميال، وأدركنا الفجر وإننا لعلى مشارفِها، فقلنا نعوجُ بها فنصلي الفجر ثم نرتحل حتى نبلُغ المدينة في نهار يومنا هذا. فلما أنخنا جمالنا وقمنا إلى الصلاة، سمعت صوتَ قارئ قد تأدَّى إلينا من بعيدٍ، فتلمَّسته حتى تبينتُ صوتًا رَاعِدًا تقيًّا كأنه الجبالَ والرمالَ والدنيا كلَّها تهتزُّ على نبراته القوية العنيفة الصادقة، وكأنه يمضي في إهاب الليل المهلهل فيفْريه فريًا ويمزقه بِمُدى من النور، وكأنه يسيلُ في البطحاءِ كالسَّيل المتقاذفِ فتموج فيه رمالها كأمثالِ الجبالِ نُسفتْ من قراراتها، وكأنّ ألفاظهُ هَبَّاتُ عاصفة تفضُّ دُرُوع الليل فضًّا، وكأنّ نغماتِه أنوار مشعشعة تخالطُ هذا كلَّه فتملأ الفجر فجرًا من نُورِها ونور ألفاظها ومعانيها. وأول ما تبيّنْتُه حين دنوت منه بحيث أسمع قراءته: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)} , إلى آخر الآيات، فلما أخذ يكبر سمعت التكبير يملأ جنبات الأرضِ كلها مترددًا ظاهرًا كأن لم يبق في الدنيا شيء إلا كبر بتكبيره.

فرغ الرجل من صلاته ووضع عمامته وبقى حيثُ هو قليلا ثم قام، فأضاءَه لي ذَرْوٌ (١) من نور الفجر الناهد من قبل المشرق، فإذا رجل في السبعين من عمره وافر اللحية أبيضها، أسمر شديد السمرة طوالٌ جُسامٌ فارعٌ كأنه صعدة (٢) مستويةٌ، أصلعُ الرأس شديدُ بريق العينين، نظر إلينا نظرةً وحيَّى ثم انفتل راجعًا إلى فسطاط مضروب قريب من حيث كان يُصَلِّي. رأيتُه وهو يمشي كأنه قائدٌ يحسُّ


(١) ذَرو: القليل من الشيء. والناهد: الذي بدأ في الظهور.
(٢) الصعدة: القناة تنبت مستوية، ولما كان الرمح يُصنَع منها سُمّى صَعْدَة.