شيء مثل ذلك لرأينا، كما رأينا في شأن الوجه القبلي والبحري، رجالا ينصبون أنفسهم لضَمّ الشمال إلى الجنوب وتوحيدهما حتى لا يكون في الأرض الواحدة دوَلٌ متقسّمة يناوئ بعضها بعضًا، فلا تقوم لواحدة منهما قائمة، ولا يكون لواحدة منهما مجدٌ أو حضارة أو تاريخ، وبذلك بقى النيل الأعلى (السودان) في سَلْم دائما، إذ لم تكن فيه دولة مناوئة، وبقيت صلته بمصر كصلة أي بلدٍ من بلاد الدنيا يكون في أرضها جزء متروك لم يُعمر بالهجرة أو الاستصلاح والاستثمار. وهذا الترك لا يدل على اقتطاع هذا الجزء، بل على أن الحاجة لم تدفع بعدُ إلى استصلاحه أو استثماره. هذا هو التاريخ القديم في العلاقة بين جزئي النيل "مصر والسودان".
ومضى التاريخ على هذا إلى أن جاء العصر الأخير، فقام شمال النيل "مصر" ليضم الجنوب "السودان"، كما قام الشمال من أمريكا لضم الجنوب إليه، وكما قام جزءٌ من بريطانيا نفسها ليضمَّ إليه بلاد الغال وأرض إسكتلندة. ولو بقى شمال أمريكا منفصلًا عن جنوبه، وبقيت بلاد الغال وبلاد إسكتلندة على أحوالها التي كانت عليها منذ قرون، لما كان في الدنيا شيءٌ يسمى الولايات المتحدة، ولا شيء يسمى بريطانيا. وإذن فضَمُّ السودان إلى مصر بالحرب لا يمكن أن يسمى "فتحًا" بل هو ضمٌّ فحسب، فلذلك يخطئ بعض الساسة الذين يحتجون في المسألة المصرية السودانية بهذا الشيء السخيف الذي يسمونه "حق الفتح". وكل ما هنالك هو أن هذا الجزء المتروك من أرض مصر أو أرض السودان -كما تشاء- كان لابد في ضمه من بعض الحرب حتى تستقر الحال ويستتبّ النظام، كما حدث في كل بلاد العالم منذ أقدم عصور التاريخ، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وهذا شيءٌ بديهيّ لا يحتاج إلى زيادة.
ويتبع هذا الخطأ في الاحتجاج بحق الفتح خطأ آخر أقبح منه، وهو احتجاجُ من يحتجُّ بما أنفقت الأرض الشمالية على الأرض الجنوبية من الأموال، وهذا أيضًا فاسدٌ كل الفساد. فكل دانق أنفقته مصر في السودان هو حق السودان على مصر، كحقّ أي قرية في أرض مصر، وكحق كل شارع أو مديرية. فينبغي إذن