المدنية العريقة منذ كان أرسطو إلى هذا اليوم! ! إذا بهذا الشعب المنادى بالاستقلال التام يسمعُ دعوةً إلى مفاوضة بريطانيا لا يدري أحدٌ كيف جاءت وكيف تدسست إليه، وإذا سعدٌ هو المفاوض، فمشت مصر في آثار زعيمها ثقةً به وتسليما لهُ، ورجتْ لحكيمها الشيخ أن يرتدَّ إليها باستقلالها التام. . .
كان هذا ولا يدري أحدٌ كيف كان! !
ولكن بقيتْ في مصر والسودان بقيَّة لم تزلْ تسمع صدَى كلماتِ الفتى الأوَّل، فهبَّت تصرُخ في وجه الشعب المطالب بالاستقلال التام! ! حذَار حذارِ، وألحَّت في صراخها ولكن مات صوتها في دويِّ الأصوات المطالبة بالاستقلال التام! وفي موْج الجماهير، وفي أزيز الرصاص وهديره وقصفه. وأخيرًا وقف رجلٌ يسخر من كلمة مصر الخالدة:"لا مفاوضة إلا بعد الجلاء" سُخرية لاذعة ملفَّفة في ثوب الدُّعابة المحبَّبة إلى هذا الشعب منذ قديم الأزمان، والذي يُدَاعب ويحب الدعابة ولا ينساها وهو في حبل المشنقة، أو في سياقِ الموت. وكانت هذه الدعابة أفْعَل من رصاص بريطانيا وحِرَابها ونذالتها جميعًا في قتل كلمة مصر والسودان:"لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، حتَّى صار من يقولُ بها معدودًا عند أصحاب العصبيات الجاهلية في عداد المجانين والموسوسين والبلهِ والملاحيس.
نعم كان ذلك ولكن لا ندري كيف كان! !
ولكن بقي شيءٌ واحدٌ جهلته بريطانيا وجواسيسُها، وجهله كل مِفراحٍ طيَّاش من أصحاب العصبيات الجاهلية التي غلبت على قلوبهم وأعمت أعينهم. ذلك الشيء الواحد هو أن المفاوضات ظلَّت تجرى منذ بدأت إلى أن كانت سنة ١٩٣٦، والشعب يتبَعُ المفاوضة بقلبه عسى أن يرجع إليه الرجال المفاوضون بحق مصر كاملا غير منقوصٍ، وهو من ورائهم يدفعهم دفعًا رجاء أن ينفعهم ذلك فينتفع بنفعهم. ولكن. . . ولكن مرة أخرى، وفي الثالثة كان الشعب يفعل ذلك مجتمعًا، فلو سألتَ كل رجل وكل أنثى وكل طفل أيضًا:"هل ترجو من وراء هذه المفاوضات خيرًا؟ " فهو قائل لك: "يا سيدى، ياما جرَّبْنا" ثم يمضي لشأنه يائسًا تكادُ دماؤه التي تجري في عروقه تبكي من الحسرات التي تقطّع قلبه وتنهش ضمير حياته!