ثم كانت سنة ثنتين من الهجرة، ففي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى، وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، وأعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله، وكانت فيصلا في تاريخ الإسلام. ويومئذ حقق الله للمؤمنين ما وعدهم إذ يقول: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ثم قال الله تعالى يمن على المؤمنين ما أكرمهم به: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
فكانت بدر الكبرى هي المنة العظمى على البشر جميعًا، إذ أتاح الله يومئذ للمسلمين أن يسيحوا في الأرض، وأن ينصروا الله وأن يجعلوا كلمته هي العليا، وأن يردوا العرب إلى شريعة أبيهم إبراهيم -عليه السلام- وهي الحنيفية السمحة، فانكشفت خلائق العرب بنبلها وكرمها وعدلها وصفائها حتى لم يبقَ على ظهر الأرض من بلغته الدعوة، أو من رأي هؤلاء الأحرار المؤمنين حتى تبع قبلتهم وآثرهم بالحب، فمكن الله للعرب أن يفتحوا الأرض ويثلوا العروش ويملكوا ما أظل ملك كسرى وقيصر في ثمانين عامًا، وأقاموا حضارة قامت على العدل والمساواة والإنصاف والتسامح، وعلى رعاية أهل الأديان وحياطتهم، وعلى رد بغي الباغين وعدوان المعتدين من أي مِلة كانوا.
كان الإسلام فيصلًا حقًا في تاريخ الأديان، وكان أول أمره في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وكانت غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها أهل الإسلام من العرب في يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. ثم شاء الله أن يدور الزمن دورته على مجد العرب وحضارة العرب، وأن تكون مصر والسودان مناط آمال العرب في هذا العصر، وشاء ربك أن ينعقد إجماع مجلس