ولما حدثت مفاوضات سنة ١٩٣٦ الخبيثة، وانتهت بمعاهدة الاحتلال التي فرضت على مصر فرضًا تحت ظل الاستبداد والتهديد والتخويف، وقعت زلة أخرى أكبر من زلة المفاوضات نفسها، وهي ذكر الورقة الباطلة المعروفة باسم اتفاقية سنة ١٨٩٩ - فكان ذكرها كأنه اعتراف بشرعيتها، واجتماع كل هذه الأخطاء واحتشادها منذ سنة ١٩٢١ إلى هذا اليوم، هو الذي مكّن لبريطانيا أن تقف في مجلس الأمن لتتكلم بالكلام الذي لا معنى له إلا أنه تزوير للحقائق، ولكنه تزوير اعتمد على هذه الأخطاء نفسها. فلولاها لما كان لبريطانيا كلام يقبله عقل عاقل، ولشق عليها أن تدلس في الحقيقة البينة، وهي أنها دولة معتدية حكمها كحكم سائر الدول المعتدية في الدنيا. ومع ذلك، فإن شيئًا من هذا لم ينفع بريطانيا، فالدول قد علمت ولا ريب أن بريطانيا معتدية بعد أن كشف النقراشى القناع عن الفضائح التي كانت مكتومة عن الناس وعن الدول، وبعد أن أبان فارس الخوري عن أساليب بريطانيا في قهر الدول الضعيفة وابتزاز حقوقها.
فلما أحجم مجلس الأجاويد عن أن يقطع برأي في مسألة مصر والسودان، وخاف أن يمس كرامة بريطانيا الدولة الشريفة النبيلة إذا هو حكم لمصر والسودان بالحق، وتنزه عن وصف بريطانيا العفيفة الطاهرة بأنها دولة معتدية على حقوق الدول المسالمة -رجعنا من حيث بدأنا في سنة ١٨٨٢، أي أننا وقفنا وحدنا لنقول للعالم مرة أخرى، هذه دولة معتدية، فلابد من رد اعتدائها ودفع عدوانها وبغيها بأي وسيلة تتاح لنا. فينبغي إذن أن ننذر بريطانيا إنذارًا لا رجعة فيه، بأن تسحب جنودها من كل بقعة كان يرفرف عليها علم مصر والسودان في سنة ١٨٨٢ دون نظر إلى معاهدات سابقة أو عرف جار، أو اتفاقات باطلة. فإذا فعلنا فقد نبذنا إليه على سواء (١)، وأعذرنا أنفسنا أمام هذا العالم الجشع من الدول المستعمرة.
(١) هذا بعض من كلام الله تعالى، جاء في سورة الأنفال، آية: ٥٨: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، أي ناجِزهم بالحرب، وأَعْلِمهم قبل حربكِ إياهم أنك قد فَسَخْتَ العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمارة الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سَواء في العلم أنك محارب لهم.