ثم إن تعجب فاعجب لهذا الغضب الرقيق والعقاب الحلو الذي جرى على لسان السير ستافورد كريبس من جراء "تهور" الحكومة المصرية في سن قانون الشركات. إن هذا القانون لا يكاد يعد شيئًا إذا قيس بقوانين الشركات وغير الشركات في بريطانيا نفسها ثم في سائر بلاد العالم، ولكن السير ستافورد يغضب هذا الغضب الرقيق ويعاتبنا هذا العتاب الحلو، لأن هذا القانون ينال شيئًا قليلا من الأجانب الذين يعيشون في مصر. وكيف لا يعاتب ولا يغضب علينا، والأجانب هم الناس، وهم مصر، وهم أصحاب المصالح الحقيقية كما كانت تقول بريطانيا قديمًا.
إن الذي يريده السير ستافورد، أو الذي تريده بريطانيا، شيء واضح هو أنه لا يحل للشعب المصري أن يفكر ساعة واحدة في أن يسن في بلاده قانونًا يقيد حرية الأجانب أو يحد من ضراوتهم وفجورهم، وإلا فعلى هذا الشعب المصري أن يحتمل تبعة هذه الجرأة وهذه الوقاحة التي تدفعه إلى الحد من سلطان سادته وأصحاب الكلمة العليا في بلاده. ولذلك رأينا الصحف البريطانية تغمز وتلمز أيضًا حين صدر قانون إقامة الأجانب في مصر، مع أن مثل هذا القانون في بريطانيا نفسها يجعل الأجنبي يعيش في أرضها وعليه مَلَكانِ يكتبان كل شيء حتى ما توسوس به نفسه. ولكننا لا نستطيع أن نسن في بلادنا قانونًا كقانونهم وإلا فإننا متعصبون يضطهدون الأجانب، وهذا التعصب كفيل بأن يقضى على كل نهضة في بلادنا، وكفيل بأن يزعزع ثقة الأمم فينا، وكفيل بأن يمنع عنا مدد بريطانيا الصالحة التقية الورعة! !
إن هذه الخطبة التي ألقاها السير ستافورد كريبس هي خلاصة موجزة لأسلوب بريطانيا في إذلال الشعوب، وإذلال شعب مصر خاصة، فعسى أن لا يفوت الحكومة المصرية أن توغل في شرحها وتتحسس سائر مراميها، لكي تعرف أن ساعة الجد قد دنت، وأنه ليس بيننا وبين بريطانيا إلا العداوة المكشوفة، وأن علينا أن نعمل رضيت بريطانيا أو أبت، وعلينا أن نصابرها وأن نحتمل الضنك والبأساء في سبيل إنقاذ مصر والسودان من براثن هذا الوحش الضاري.