صحيحا، إلا بقايا لا تغني عنه، كما أصبح يوما في ميدان الحرب، ومعه بقايا أسلحة لا تغني عنه شيئا.
جاءت الغزوات الصليبية الجديدة متلاحقة سريعة نفاذة تنشر طلائعها الأولى في كل مكان، مزودة بالفهم والإدراك والمعرفة، بطبيعة هذا الميدان الجديد، فتلقى قوما قد سلبوا الفهم والإدراك والمعرفة لطبيعة هذا الميدان. ولكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أن هذه الطلائع عدو لهم، فقاومهم من قاومهم بما تستثيره الفطرة من بغض العدو والشك فيه، وإن جاء في ثوب المسالم والناصح. وتهاوى آخرون، فوقعوا في حوزة العدو، إذ غرتهم مسالمته وخدعهم نصحه، وظلت هذه الحروب دائرة بيننا وبينهم أكثر من مئة وخمسين عاما، في سكون وصمت، ولجاجة وحرص، وقوة وحذر، ومعرفة وبصر، حتى بلغ العدو منا مبلغا لم يكن في أول الأمر يظن أنه يبلغه. فقد تهاوى البناء كله فجأة. وأصبحت الحياة الإسلامية أطلالا يناديها الفناء فتجيب بلا مقاومة ولا عناد.
ذهب كل شيء يكون للحياة البشرية قواما وعمادا: ذهب العلم والأدب والأخلاق واللغة والتاريخ، وجاءه الغزاة بما يحل مكانه من علم وأدب وأخلاق ولغة وتاريخ. ذهب الذي كان ينبع نبعه من كتاب الله، ومن حياة الأمة المسلمة، وسنة رسوله، وجاء الذي ينبع نبعه من الحياة الوثنية القديمة، ومن المسيحية المحدثة، ذهب الذي كان يتحدر إلينا كما تتحدر الوارثات من أصلاب الآباء إلى أصلاب الأبناء، وجاء الذي يتحدر إلينا كما يتحدر السيل الجارف لا يبقى ولا يذر. ذهب شيء وجاء شيء، فتغير نظرنا وفكرنا، وتغير إدراكنا ومعرفتنا، وتغير شعورنا وإحساسنا، وتغير لساننا وبياننا. فعدنا ننظر في الكتاب الذي هو كتابنا، وأخبار النبي الذي هو نبينا، وآثار الماضين الذين هم آباؤنا، فأنكرنا ما وجدنا في ذلك كله، فطرحه منا من طرحه وراء ظهره ولم يبال به، وتهيب منا من تهيب فوقف لا يدرى ماذا يفعل، وبقيت طائفة لا تطرح ولا تتهيب، فطلبت مخرجا من هذا الشيء الذي تنكره إنكارًا خفيفا، وهو في هذه الصورة التي جاء عليها من التراث الماضي. فرأت المخرج في تجديد التراث