للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

كل ركن في هذا العالم، وسارت حُمَيَّاه سَوْرَة مستبدة بكثير من رؤوس الدعاة. وانطلقت الألسنة مسرعة تريد أن تبني بناء عقليا جديدا لهذا الإسلام الذي تهدم بناؤه القديم، فما تجد لسانا إلا وهو يرسل طوفانا من الكلام بلا حذر ولا توقف، وكل لسان يرى في الذي يرسله مادة صحيحة لبناء هذا العالم المتهدم. وأصبح كل داعية إمامًا يقتدى به. والمقتدون به لا يعلمون شيئا إلا أن هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلا صحيحا من أصول هذا الإسلام الذي يدعوهم إليه. وكل داعية يظن نفسه ينبوعا يروى الظامئين، يسألونه فيجيب، فيطوفون به طواف الوثني بالصنم. مادة علمهم أن يستمدوا منه ما يجود عليهم به. ولا يجد أحدهم متسعا أن يلتمس علمه إلا من فيض لسان هذا الإمام الداعى. والإمام مشغول بالتماس المعاني التي يفيضها عليهم، وهم لا يسألونه من أين يأتي بها. وكل داعية مشغول بإعداد المادة لمن يتبعه، لا يحذر ولا يخاف ولا يتحرى. وكل داعية مشغول عن الداعية الآخر، لا ينظر في أمره ولا يتعقبه ولا يقول له من أين جئت بهذا. بل لعله يغفل عن أفسد الفساد في قوله وفعله، وأقبح القبح الذي يبثه في أتباعه، لأنه يقول لنفسه إننا مشغولون جميعا برم هذا البناء الذي تهدم، بل ببناء شيء هو خير من الذي تهدم. وكل داعية منهم هو في الحقيقة منكر للحياة الأولى للإسلام، ولكنه يريد أن يقاوم الفناء بأن يستخرج من نواحي هذه الحياة ما يقنع هو به، ويقنع بعض الناس به: إن في ماضي الإسلام ما يمكن أن يكون مماثلا للحياة الحاضرة، أو تصحيحا لبعض أخطاء الحياة الحاضرة. بيد أنه لا يصل إلى ذلك إلا بنظره هو، وتفكيره هو، بصورة يرتضها هو، ولا يبالى أن يكون استدلاله في غير موضعه، ولا أن يكون فكره قد فسر الأشياء على غير ما ينبغي أن تكون عليه، أو على غير ما كانت عليه.

فأعمال هؤلاء الدعاة، ليست في الحقيقة إلا ضربا من هذيان هذا الوباء المقرون بالحمى، ليس له أصل إلا فورة الدم في المحموم. فإذا استمر أمر الإسلام على هذا الذي نراه، فقد انتهى كل شيء. وإذا قدر لهذا العالم الإسلامي أن تعتزل طائفة منه هذا الخبل الخابل، لتعيد النظر في الأصول الصحيحة لدينها،