للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بليغًا على أسلوب غير هذا الذي كان لابن خلدون، ولم يكن لسان الدين بأقل من ابن خلدون في إشراق الفهم ورحب الإدراك، ولكنه كان أقلَّ منهُ في القياس بين النظائر التي كانت تحدث لهُ وهو وزير الدولة أو التي كانت تجدُّ في الجوّ السياسي المتلبّد بغيوم من الدسائس والفتن والأهوال الرائحة الغادية على الدولة وأهلها.

نقل الأستاذ عنان، قول جمبلوفتش "لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجست كونت، بل قبل فيكو الذي أراد الإيطاليون أن يجعلوا منهُ أول اجتماعىّ أوربىّ، جاءَ مسلم تقىٍّ فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة وما كتبه هو ما نسميه اليوم علم الاجتماع". واستوقفتنى هذه الكلمات زمنا طويلًا ترامى فيه الفكر، واستيقظ في القلب ذلك الإحساس بالظلم والغبن والتجاهل الذي لقيه الفكر العربي في هذه الأزمان وما قبلها.

إن القرآن نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحيًا لا شكَّ فيهِ، بآيات بيناتٍ فيها حاجة الإنسان المدني العامل الظافر بالسعادتين في الدنيا والآخرة، وكان هذا القرآن مادّة العلم العربي على القرون ومنهُ استقى ابن خلدون وغير ابن خلدون من علماء هذه الأمة الإسلامية ومنه خرج التشريع العظيم الذي ملأ الأرض عدلًا وكان منهُ ما نسميه علمُ الفقه. ففي هذا العلم تجد علم الاجتماع مفرَّقًا في مسائله وأحكامه، ومن رجع إلى كتب الأئمة (المتقدمين خاصة) وجدَ من أُسُس علم الاجتماع ما لا يدعُ شكا في نفس أحد من أن ابن خلدون إنما استخرج أسسه (وأسس غيره مما أتى به في مقدمته) من هذا المورد الذي لا ينفد. ولابدّ من أن نقول إن القرآن أتى بأسس هذه العلوم مختصرة غير مفصلة وإن الرسول في حديثه بين بعضها وترك بعضًا للفكر الإنساني لئلَّا يضيقَ وينحصرَ ويخمد إذا أتاهُ بالتفاصيل كلّها. هذا وليس من المعقول أن يوحيَ الله إلى رسولٍ من رُسله بكل شؤون الحياة مفصلة ولئن فعل، فمن ذا الذي يحفظها، كما حفظ القرآن والحديث؟ !

من العلوم الإسلامية علم مجهول لا تجد فيه إلا كتبًا قلائل مما نجا من عبث