للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهو إذن أقرب الحروف للبيان عن المعاني الشافعية التي لا تتحامل أصواتها إلى المادة وصوتها، ولذلك يدور أكثر ما يدور في الألفاظ ذوات المعاني النفسية الصافيةُ التي تذوب فيها آلام النفس وأحزانها وأحلامها وأفكارها التي لا تتكلم إلَّا لمحًا وإشارة وتلويحًا. فكذلك هو في معناه إذا قلت: "أنّ" أنينًا، و"حنَّ" حنينًا وحنانًا، و"هَنَّ" هنينًا، وهو كالحنين والأنين، وكذلك "خنَّ" خنينًا، وهو الانتحاب والبكاءُ الذي يتردد حتى يصير في الصوت غُنة من جولان البكاء في الخياشيم. وذلك كلهُ من أجل الحزن الذي لا يعبر عنهُ إلَّا بالصوت المبهم المطاوع لحركة الجسد إذا حُرك من نوازى الأحزان الداعية إلى هزّ الأعصاب وبالرجفة التي تلحقها من تنزِّيه فيها. ولكن انظر إلى "خنَّ" وتدبَّر فعل "الخاء" في توجيه المعنى إلى الشموخ والاستعلاء ورفع الصوت بالبكاء، وخشونة الصوت التي تكون في هذا الضرب من البكاء أو الضحك المشوب بالترفع والاشمئزاز، وإلى التعذُّر والمعالجة التي تجدها في البدء بالخاء. ومن أجل هذا يتباين الأنينُ والحنينُ من "الخنين" تباينًا صحيحًا في الدلالة على هذا الأنين المشوب بالصوت الذي وصفناه لك.

ونحن نقف بالقول عند هذا الحدّ الذي حدَّه الفرق الصوتى أيضًا بين النون والراء التي تليها في المخرج، ولعلك قد رضيت عن هذا الضرب من النظر، ولعلك تحمل نفسك على معاناته وتكلفه، ولعلك تجد لهُ من الطرافة والحسن واللذة، وما يجعلك تمضي في إتمام ما أسقطناه من كلامنا. فإذا فعلت عرفت لطف هذه اللغة، وملابستها للطبع والطبيعة والفطرة، وأن أصحاب هذا اللسان كانوا أرقَّ الناسِ إحساسًا، وألطفهم فهمًا، وأحسنهم تهديًا إلى المعاني، وأثقفهم لسحر الطبيعة وأنغامها ولغتها التي تجرى في أرواح الشعراء بالمعاني والأحلام.

واعلم أننا إنما أخذنا لك من أبواب الكلام في هذه الكلمات، وما يُعدُّ من أصول المادة اللغوية التي يكون الحرف دالًّا عليها، وتركنا ما هو مجاز واستعارة في مذهبنا، وإن كان أصحاب علم اللغة يعدُّونه من أصل المادة أيضًا. وإذا جاء أوان شرح المجاز من المعنى الأصلي إلى المعنى الذي انتقل إليه اللفظ بعدُ،