للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدنيا مرة أخرى مولودًا لوقته، ولا هي تلقيه سِقْطا مُعجَلًا قبل ميعاد مولده، بل هو أبدًا جنين مستقرٌ لن يرى نور الدنيا ثانيةً.

تموتُ وتحيا حائل من بناتها ... ومنهن أخرى عاقرٌ، وهي تحملُ

ومن بناتها أرضون حوامل، وحملها هذه القرى، تكون عامرة تارة وخرابًا تارة أخرى، فالقرى تحيا إذا كانت عامرة، وتموت إذا صارت خَرابًا. ومن بناتها أرضٌ هي البيداء، وهي عاقر لا تحمل قرى، ولكنها تحمل الناس من البداة الذين يسكنونها وينتجعون مراتعها:

تراها أمامَ الركبِ في كل منزلٍ ... ولو طالَ إيجافٌ بها وترحُّلُ

وهي بساط بعيدٌ مترام لا يتناهي، فهو أبدًا أمام السَّفْر. كلما ساروا وأوغلوا، لم يستقبلوا إلَّا أرضًا ولا شيء إلَّا الأرض، فهي:

تُقَطعُ أعناقَ الركابِ، ولا ترى ... على السير إلَّا صِلْدِمًا ما تَزَيَّلُ

إذ كل من أراد قطعها شَقِى في طَيها حتى تكاد أعناق ركابه تنقطع، وهي هي لا تنتهي حتى يخيل إليك أنك لم ترحل فيها عن مكانك، فكأَنك ركبت من هذه الأرض راحلة شاقة صلبة لا تفارق مكانها:

ولو جُعلَ الكُور العِلافي فوقها ... وراكبُهُ أعيتْ به ما تَحَلْحَلُ

فلو وضع الرحل فوق هذه الراحلة، أي الأرض، ثم علاه الراكب، لأبت ولم تتحرك من مكانها. ومع ذلك فإِن راكبها لو أراد أن تتحَرك به فإِنهُ:

يرى الموت إن قامت، وإن بَرَكت بهِ ... يرى موتَهُ عن ظهرها حين ينزلُ

فإِن الأرض إذا همت براكبها وارتفعت عن مكانها فذلك نذيرٌ بفناء الكون وقيام القيامة؟ وإن ثبتت به لا تتحرك فإِنه يرى ويستيقن أن ساعة موته قد دنت لينزل عن ظهرها. وهذه هي الأرض المفنية المحيية التي وصفها. فلما قارن بينها وبين الراحلة التي تُركب لتقطع عليها مسافة الرحلة، أتى بالدليل على ذلك وهو: أنها:

تُرَى ولها ظَهْرٌ، وبطنٌ، وذِروَةٌ ... وتشرب من بَردِ الشراب وتأكلُ