مَن سُوِّغ من أشعتها لمحات، لا تزال تضئ في قلبي سراجا هاديا، فيما ينطق عليّ من ضلال الحياة انطباق فكٍّ من الظلام على فك. . . وكنت (حين تفجر النور من منبعه الصافي) مع أخي الذي أشرقتْ عليه (عبد السلام هارون) في طريقنا إلى المطبعة السلفية، يدفعنا الشباب، وتثور بنا الفكرة المنبعثة من الآلام التي لقيناها حين سمعنا خبر جمعية الشبان المسيحية. وكانت دار المطبعة السلفية -ولم تزل- نبع القلوب الصادية، تردُها من الشباب فئة قليلة الصبر على ضيم ينزل بالأمة العربية من ظلم الاستعمار، وعصبية الاستعمار. ففي المطبعة السلفية قلد السيف صاحبه. . . ذلك المجاهد الرابض في مكتبة، يواصل الليل بالنهار، عاملا لأشياء قد استقرت في نفسه فصارت إيمانا، ودارت على لسانه فأصبحت تسبيحا، وترامت عن قلمه فكانت جهادا - ذلك هو محب الدين الخطيب.
لم يلبث هذا الجمع أن جمع من كبار المجاهدين رجلين: أما أحدهما فرحمة الله عليه أحمد تيمور باشا، ذلك القلب الرقيق الوفي، الذي لا يَنْسَى ولا يُنْسَى، وأما الآخر، فهو العالم المخلص، والكاتب البليغ الأستاذ السيد محمد الخضر حسين، الذي بارك الله به هذا العمل من الساعة الأولى، فمن هؤلاء جميعا استفاض النور الحي الجميل على مدينة الأحلام الفاتنة، التي نسميها الآن (جمعية الشبان المسلمين).
أما تيمور باشا رحمة الله عليه فحين سمع ما تآمرنا له أضاء وجهه، وابتسم ثغره، وترقرق الدمع في عينه، حتى لظننت أنى لا أرى رجلا شيخا، بل أرى قلبا فتيًّا حيا، يتنزى إلى جهاد يبذل فيه الروح في غير حرص ولا شح.
وأما السيد الخضر فكان كالغُصن الرطب، حين يَفيئه النسيم، يهتز طربا وسرورا، فحين بدأنا العمل أصبح نشاطا قد سُوِّىَ رجلا، وإيمانا قد أفرغ قلبا، وصراحة قد جمعت حزما وعزما.
هذا الاجتماع الأول كان هو الحجر الأساسي الذي يقوم عليه البناء الحي النابض بدم الشباب، العامل بفكرة الشيوخ، المترامى إلى الحقيقة العظمى في