أكان هذا الأثر مما نرضى عنه أُم كنا نعارض فيه ونقف دونه، ونخالف على صحته أو بطلانه. وعقيدتى أن حقيقة الحياة هي المبدأ والإيمانُ به، وبغيرهما ينقلب الإنسان آلةً عاملة لا يعرف معنى الإيجاد والإِبداع والمقاومة، والنزُوع العقليِّ والروحيِّ إلى المعاني السامية والفضائل العلْوية. وكذلك يفقد الإِنسان الحياة، وكذلك يضيع التراث الإنسانيّ الذي جاهدت أجيال البشر الغابرة في سبيله، بما وهبت من قوة، وما أُعِينَت به من وسيلة. إن صحة المبدأ وحدها كفيلة بإحداث أعظم الآثار في تاريخ العقل الإنسانيّ، وأما الإيمان بهذا المبدأ، فهو إعطاء العقل قوة التدبير ليخرج حقائقه وأمانيه إخراجًا عمليًا في الحياة.
لقد كان المبدأ الأول "للعصور" هو حرية الفكر، وصراحةُ الضمير، وإخلاصٌ للوطن والعلم والأدب. هذا هو المبدأ، وقد آمن به "إسماعيل" إيمان الشباب المتوقّد، فاندفع به الرأيُ في مجاهله فاهتدى وضل، وأضاع نفسه ووجدها. . . لم يبق على حالة يستقر عندها استقرار الحكمة الرزينة.
الرجل الحر، هذا هو مبدئى ومبدأ أصحابى. الرجل الحر أي الفكر الحر الذي يبلغ من حريته، واتساع آفاقه، وبُعد مداه، وتراميه إلى الغايات البعيدة وتساميه إلى الأجواء العلوية - أن يعرف أن للحرية قيودًا كثيرة، وأن الجاهل المغرور هو الذي يظنها انطلاقا من القيد، وخروجًا من التقاليد، وتحللا من إصر الأخلاق وأغلال الشرائع.
إن النفس (البُغاثية)(١) إذا انطلقت -في ضعفها وفتورها- بين حدائق الرأي وغاباته أذهلها سعة ما ترى من الأرض الخضراء المثمرة المُظلة، وخُيل إليها أن الدنيا كلها امتداد لما ترى ينبسط على نهج واحد. ولكنَّ نفس (النسر) الأجدل تنطلق لترى الغاب وما وراء الغاب، فترى كيف ينتهي إلى قفر يحدُّه بجَدْبه وظمأه وفقره وإعدامه، ثم يصده بجبال رواس شامخات الذُّرى، مظلمات
(١) بُغاث الطيور: ألائمها وشرارها وما لا يصيد منها.