ولكن هذه الظاهرة الجديدة التي تدفع الشباب الجديد إلى الشك في قيمة ذلك الأدب، وإلى الشك في أنفسهم -هي النجاة لهم من عبودية مستبدة ماحقة وهي التي ستقذف في أعصاب الجيل الجديد روح الحرية، وهي التي ستجعله يأبى إلا أن يمهد الطريق قبل المسير، وإلا أن يتخير الأساس قبل البناء، وإلا أن يعرف برهان الحقيقة التي يجب عليه اعتقادها قبل الإيمان بها إيمانا أعشى أو إيمانا أعور أو إيمانا أعمى يضل به ويموت عليه.
ونحن قد تناولنا في الكلمة السالفة تعريف الأدب الذي وضعه ابن خلدون في مقدمته، وأخذنا في نقده وتمحيصه لعلمنا أن الأدواء التي أدركت الأدب أو أصابته ترتد في أصل جرثومتها إلى عهد بعيد متقادم. فأردنا بذلك البيان عن هذه العلة (بالتشخيص) والتحليل.
فإذا عرف طالب الأدب حقيقة الأدب كان ذلك أحرى أن يهديه سواء السبيل في كل ما يقصده من أغراض هذا الأدب وهذا هو الأصل، وأما الفروع التي تتفرع منه فهي هينة عليه بعد ذلك إن شاء الله. وقد كان القدماء الذين نقل عنهم ابن خلدون ومن هو في طبقته -يعرفون حقيقة الأدب معرفة نفسية، فلذلك كان كلامهم عنه صحيحًا موجزًا ولكن شرح أهل العصور المتأخرة التي ضلت عن حقيقة الأدب -حين شرحوا هذا الكلام الموجز الدقيق الفاصل- هو أصل الداء الذي تغلغل في الأدب العربي قديمه وحديثه، وهو الذي حقر الأدب في عيون أكثر الأدباء، وزيفه عند العامة.
فإذا استطعنا أن نخلص إلى حقيقة أقوال القدماء الموجزة وعرفنا سر معانيها الجميلة الدقيقة، نظرنا -عندئذ- إلى الأدب القديم نظرة جديدة تنفض عنه الأتربة التي طمست محاسنه وروائعه كل هذه القرون، وإذا عرفنا هذه المحاسن وما فيها من جمال وفتنة، استطعنا أن نغير أساليب القراءة وأساليب الفكر فيما نقرأ، فإذا أدركنا ذلك فهو أول الطريق إلى الأدب الصحيح الذي نريده ونشتاق إليه, وهو بدء الحرية الأدبية التي لا تعرف القديم والجديد بتلك الفكرة المفتونة المريضة التي ثارت في ميادين الأدب حينا من الدهر، تحقر القديم لقدمه،