على شعلة الوطن التي أوقدتها قلوب أبنائه ذَنوبا (١) من ماء، فأطفأوا نورًا ونارًا - لو هما بقيا واستمرا إلى غاية، لأضاءا للتاريخ المصري الحديث مرتقاه إلى الذروة.
ولكن لا يخذل الله إلا هالكا، فاصطفاك الله لمصر في أيام من المحن، فما ندرى! !
لقد كانت مصر تجهل أن هذا الرجل الذي استطاع أن يلم شعث الوطن في أيام عاصفة، هو الرجل نفسه الذي سيكون عمله فيما بعد تعبيرًا عن روح النار المصرية الخالدة التي تأبى أن تنطفيء. نعم، لقد وقفت اليوم على قمة المجد الوطنى تكشف الحجاب عن ذلك المارد العاتى الذي جعل همه أن يغرر غرره بالوطن المصري، فنزعت من قلبك الرهبة، وسموت بروحك عن حاجة البدن وضرورة المادة، فتوهج بك النبراس المنير الذي سيضئ لمصر مرة أخرى -بعد مصطفى كامل- طريقها إلى معراج مجدها الخالد الذي لا يتهدم.
أبشر أيها الرجل المبارك! ! ! إن هذه القلوب المصرية المشعلة قد جعلت تسمع معمعة نيرانها تتردد في أرجاء الوطن قاصيها ودانيها. وإن الجرأة الكامنة في ضلوع هذا الشعب قد وجدت تعبيرها في مثال روحي سام نبيل، فهي تمد بقوتها وتستمد منه استمرارها ودوامها، ليس في مصر اليوم إلا أمة على قلب رجل واحد، اجتمعت على معرفة الحقيقة التي أحاطت بها، فهي لن تتوانى ساعة من نهار في إعلان حقيقتها هي. تلك هي الحقيقة التاريخية الخالدة في بلاد الشرق حقيقة الروح الباقية بإيمانها، بعد أن ينضم الثرى على رمَّة ورُفاتها.
إن الأسد لا يعرف من معاني وجوده إلا معنى واحدا: هو معنى العظمة الباذخة تستعلن بخيلائها من عضله إلى لبدته، وتتجلى بتيهها من نظراته إلى مشيته، لأنه هو قوة تفرض سلطانها بنفسها، وهو متبوع لا تابع، وهو صرامة
(١) الذَّنُوب: الدلو المَلأَى، ولا يُقال لها وهي فارغة: ذَنُوب.