وقد دلنا الله سبحانه على طرف من هذا المعنى. إذ جعل الصيام معادلا لتحرير الرقبة في ثلاثة أحكام من كتابه إذ جعل على من قتل مؤمنا خطأ تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}. وجعل على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا تحرير رقبة من قبل أن يتماسا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. وجعل كفارة اليمين تحرير رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ}. فانظر لم كتب الله على من ارتكب شيئا من هذه الخطايا الثلاث: أن يحرر رقبة مؤمنة من رق الاستعباد، فإن لم يجدها فعليه أن يعمل على تحرير نفسه من رق مطالب الحياة، ورق ضرورات البدن ورق شهوات النفس، فالصيام كما ترى هو عبادة الأحرار، وهو تهذيب الأحرار وهو ثقافة الأحرار.
ولو حرص كل مسلم على أن يستوعب بالصيام معاني الحرية، وأسباب الحرية، ومقاليد الحرية، وأنف لدينه ولنفسه أن تكون حكمة صيامه متعلقة بالأحشاء والأمعاء والبطون في بذل طعام أو حرمان من طعام -لرأينا الأرض المسلمة لا يكاد يستقر فيها ظلم لأن للنفوس المسلمة بطشا هو أكبر من الظلم، بطش النفوس التي لا تخشى إلا الله ولا يملك رقها إلا خالق السموات والأرض وما بينهما. ولرأينا الأرض المسلمة لا يستولى عليها الاستعمار، لأن النفوس المسلمة تستطيع أن تهجر كل لذة وتخرج من كل سلطان، وتستطيع أن تجوع وتعرى وأن تتألم وتتوجع صابرة صادقة مهاجرة في سبيل الحق الأعلى وفي سبيل الحرية التي ثقفها بها صيامها وفي سبيل إعتاق الملايين المستعبدة في الأرض بغير حق وبغير سلطان. واستطاع كل مسلم أن يكون صرخة في الأرض تلهب القلوب، وتدعوها إلى خلع كل شرك يقود إليه الخوف من الظلم، ويفضل إليه حب الحياة وحب الترف وحب النعمة، وهي أعوان الاستعمار على الناس.
ويوم يعرف المسلمون صيامهم حق معرفته، ويوم يجعلونه مدرسة لتحرير نفوسهم من كل ضرورة وكل نقيصة، فحق على الله يومئذ أن ينصر هذه الفئة الصائمة عن حاجات أبدانها وشهوات نفوسها، الطالبة لما عند ربها من كرامته