فإن المحكي عنه ليس بأكثر من ادعى إبراهيم دعوى، فعارضه بمثلها فانتقل إلى دعوى أخرى، وإن كان ما ذكره إبراهيم ثانية حجة، فهلا كان يعكس عليها ويقول: فليأت ربك بشمس من المغرب، فإن الآتي بها من المشرق حتى كان لا يبهت، قيل: قد تقدم أن ما يمكنه الله عن الأمم لا يكاد يستوفي القصة من أولها إلى آخرها، بل يورد نكتة، ويشير إليها إشارة وهو لم يستوف ذكر ما حاجه به كله، وقد تقدم أن نمرود لم يدع أني شخص وحشي موجد السماوات والأرض، وإنما كان ذلك على أحد الوجهين المتقدم ذكرهما، وكان قد ادعى أن كل ما هو داخل تحت قدرته، فهو أو مثله أو قريب منه داخل تحت قدرتي، فقال إبراهيم: ربي الذي يحي ويميت فقال أنا أحي وأميت، فأخرج رجلين من الحبس، فخلى أحدهما، وقتل الآخر، فقال: هذا أحياه وهذا أماته، وقد كان إبراهيم يمكنه أن يزيد أن الذي ادعاه لربه ليس هو الجنس الذي ادعيته لكن عدل إلى فعل ليس في طرق البشر هو ولا قريب منه ولا ما يشاركه اسما، مقال، قد ثبت باتفاق أن الله يحرك الشمس من المشرق، فحرك أنت تحريكاً من المغرب، فلم يجد شيئا يدعيه كما ادعي في الأحياء والإماتة، فبهت حينئذ، وظهر عجزه إذ لم يكن من جنس إطلاع الشمس وإغرابها شي ممكن للملوك كما ادعي الإحياء والإماتة، ولم يمكنه أن يعكس ذلك، فقد كان أقر بالباري، وإنما كان يدعي أنه يفعل فعله،
إن قيل: أليس العدول من حجة إلى حجة يعده أهل الجدل انقطاعاً؟ فما وجه ما فعل إبراهيم؟
قيل: أما أولاً، فما ذكره إبراهيم كان معارضة، وذاك أن الكافر ادعي أن في وسعه أن يفعل كل جنس من الفعل يفعله الباري- عز وجل، وذلك ادعاء حكم موجب كلي، والكلي ينقض بالجزئي، نحو أن يقال: كل إنسان كاتب، فمتى وجد إنسان شرير كاتب فقد ظهر كدبه، وللمعارض إذا أراد المناقضة أن ينتقل عن مثال خفي إلى مثال جلي، ولا يكون ذلك منه انتقالاً، وهذا باب قد أحكمه أهل الجدل، على أن ذلك لو كان ابتداء حجة، لم يكن على شرط أهل النظر بمذموم، فالحجج الجدول عليما ضربان.