للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأفق ورفع ذنب السرحان، وقد ذكر ذلك تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن - المقدم ذكره (١) - المعروف بالبندهي في كتاب " شرح المقامات " ولولا خوف الإطالة لبينت ذلك.

ولما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف، وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة، وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة (٢) بالعلماء والمشتغلين، وكان الشيخ موفق الدين المذكور شيخ الجماعة في الأدب، لم يكن فيهم مثله، فشرعت في القراءة عليه، وكان يقرئ بجامعها في المقصورة الشمالية بعد العصر، وبين الصلاتين بالمدرسة الرواحية، وكان عنده جماعة قد تنبهوا وتميزوا به، وهم ملازمون مجلسه لا يفارقونه في وقت الإقراء وابتدأت بكتاب " اللمع " لابن جني، فقرأت عليه معظمها مع سماعي لدروس الجماعة الحاضرين، وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين، وما أتممتها إلا على غيره لعذر اقتضى ذلك.

وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدئ والمنتهي، وكان خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون، مع سكينة ووقار، ولقد حضرت يوماً حلقته، وبعض الفقهاء يقرأ عليه " اللمع " لابن جني، فقرأ بيت ذي الرمة في باب النداء:

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم فقال له الشيخ: إن هذا الشاعر لشدة ولهه في المحبة وعظم وجده بهذه المحبوبة أم سالم وكثرة مشابهتها للغزال كما جرت عادة الشعراء في تشبيههم النساء الصباح الوجوه بالغزلان والمها، اشتبه عليه الحال، فلم يدر هل هي امرأة أم ظبية، فقال: آأنت أم أمّ سالم؛ وأطال الشيخ موفق الدين القول في ذلك وبسطه بأحسن عبارة، بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن، وذلك الفقيه منصت مقبل على كلامه بكليته، حتى يتوهم من يراه على تلك الصورة أنه قد تعقل جميع ما قاله، فلما فرغ الشيخ من شرحه قال له الفقيه: يا مولانا أيش في المرأة الحسناء يشبه الظبية فقال له الشيخ قول منبسط: تشبهها في


(١) انظر ج ٤: ٣٩٠.
(٢) بر: محشوة.

<<  <  ج: ص:  >  >>