فجلس، ولم يخاطبه حتى حضر الآخر، ثم أقبل عليهما، فقال: ويحكما، أخبراني، ألم أحسن إليكما، وأصطنعكما، وأنوّه بكما، وأسن أرزاقكما، وأعل مرتبتكما، وأخفّف الخدمة عليكما، وأتناه بجهدي، في قضاء حقوقكما؟
فأخذا يشكرانه.
فقال: ما أريد هذا، إمّا أن تقولا: نعم، أو لا.
فقالا: بلى، والله، وزيادة.
قال: فمن حقّي عليكما، ومكافاة هذا، وشكره، أن تقطعا عنّي رجاء الناس؛ وتصدّانهم عن أملي، وتؤيسانهم من [١٥٣] برّي، وتنسباني عندهم إلى الضجر برقاع المؤمّلين، والبخل على المستحقين؟. ما كان عليكما، لو أخذتما رقعة الرجل، فإن أجرى الله على يدي خيرا، كنتما فيه شريكين، وإن ضجرت، كان الضجر إليّ منسوبا، وأنتما منه بريئان، وقد قضيتما حقّ قصد الرجل لكما، فلا حقّه قضيتما، ولا حقّ الله عزّ وجلّ، فيما أخذه على عباده من بذل الجاه، ولا حقّ إنعامي.
قال: وأسرف في لومهما، وتوبيخهما، حتى كأنّهما قد جنيا أعظم جناية.
قال: فأقبلا يعتذران، ويحلفان أنّهما ما أرادا إلّا التخفيف عنه بقراءة شيء طويل، وأرادا أن يخفّف الرجل الرقعة، فتخف قراءتها، وتكون أنجع لحاجته، وإنّهما ما قدّرا أنّه قد أيس، وانصرف مغموما، ولو علما بذلك، لقصداه، حتى يرتجعا رقعته، ويوصلانها.
قال: فأقبلت الجماعة تدعو له، وتحلف، أنّ هذا التأديب، والتفضّل، والنيّة في الجود والكرم، أحسن من الفعل الذي عمله مع الرجل، على عظم حسنه، وأنّه ليس على [١٥٤] وجه الأرض من يعمله غيرك.