للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أنا مغشيا عليّ، فظنّ الملّاحون أنّي قد صرعت، فأذّن بعضهم في أذني، فأفقت بعد ساعة، وما زالوا يدارونها، ويرفقون بها، ويسألونها الغناء، إلى أن أصلحت العود، واندفعت تغني في الثقيل الثاني:

فوقفت أسأل بالذين تحملوا ... وكأنّ قلبي بالشفار يقطّع

فدخلت دارهم أسائل عنهم ... والدار خالية المنازل بلقع

ثم شهقت، فكادت تتلف، وارتفع لها بكاء عظيم، وصعقت أنا، فتبرّم بي الملّاحون وقالوا: كيف حملنا هذا المجنون؟ وقال بعضهم: إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه.

فجاءني أمر أعظم من كل ما أصابني، وجاءني في نفسي التصبّر، والحيلة في أن أعلم الجارية بمكاني بالزلّال، لتمنع من إخراجي، فأفقت.

وبلغنا إلى قرب المدائن، فقال صاحب الزلّال: اصعدوا بنا إلى الشط، فطرحوا إلى الشط، وصعدت الجماعة، وكان المساء قريبا، وصعد أكثر الملاحين يتغوّطون، وخلا الحديدي، وكان الجواري فيمن صعد إلى مستراح ضرب لهن.

فمشيت سارقا نفسي، حتى صرت خلف الستارة، فغيّرت طريقة العود عما كانت عليه إلى طريقة أخرى، ورجعت إلى موضعي من الزلّال.

وفرغ القوم من حاجتهم في الشط، ورجعوا والقمر منبسط، فقالوا لها:

هو ذا ترين وقتنا، فتكلّفي الغناء، ولا تنغّصي علينا، فأخذت العود، فجسته، وشهقت، وقالت: قد والله، أصلح هذا العود مولاي، على طريقة من الضرب كان بها معجبا، وكان يضربها معي، وو الله، إنّه معنا في الزلّال.

فقال لها مولاها: والله، يا هذه، لو كان معنا ما امتنعنا من عشرته، فلعلّه أن يخفّ بعض ما بك، فننتفع بغنائك، ولكنّ هذا بعيد.