أن كل عاقل يستطيع أن يسمع همس الاستعمار في هذا الضجيج الصاخب، ويرى أصابعه من خلال الغبار الثائر: ويرى غايته في الاحتيال على تحطيم إرادة الشعب، وتحطيم ثقته بنفسه، وتحطيم إيمانه، وتحطيم تفكيره، وتحطيم أخلاقه وتحطيم عزائمه، وتحطيم قدرته على العمل. والحكومة صنيعة له، فهي أداة من أدوات هذا التحطيم.
وكل عاقل يستطيع أن يرى تماثيل الأبطال القدماء من صنائع الاستعمار، وهي تتهاوى في قبور الثرى، وفي حفر النسيان، وفي مصارع الشيخوخة، وفي مزالق العجز والفناء.
وكل عاقل يستطيع أن يبصر في هذه الظلمة المتبلبلة أنامل الاستعمار -على اختلاف دوله وأجناسه وأهوائه- وهي تصنع للشعب دمى من الأبطال الكذبة، ليخرجوهم على أعين الناس في مسرحية مصارعة الاستعمار بأساليب الشعوب الوطنية، لكي ينخدع الشعب بهم ويطمئن إلى أعمالهم، وليحلوا بعد قليل محل الجيل الفاني من صنائعه. ويتم كل ذلك بأسلوب طبيعي، على التدريج، وبلا مفاجأة، حتى لا يكون الأمر مدعاة إلى الريبة، بل إلى الاطمئنان والرجاء تارة، وإلى الإعجاب والعذر تارة أخرى.
فما الذي يرمى إليه الاستعمار إذن، بأن يدفع صنائعه التي استحدثها في هذا العهد الأخير، لكي يتولوا هم قيادة الشعب، بلسان كلسان الشعب، يستخدم كلمة يريد بها هؤلاء الصنائع معنى، ويريد الشعب معنى آخر؟ يريدون بها معاهدة تلغى وتحل محلها أخرى، ويريد الشعب بها أنه لا يعترف بأية معاهدة مع المستعمر، ولا يريد أن يسمع ذكر معاهدة أخرى، بل يريد الحرية كاملة بلا قيد ولا شرط، ينالها بالطريقة التي تنال بها كل حرية.
هناك وجوه كثيرة لتفسير ما يريده بنا الاستعمار، ولكني سأقتصر الآن على أبشعها وشرها: تلغى المعاهدة، ويتولى الأبطال المزيفون قيادة الشعب إلى جهاد عنيف، هو راغب فيه لا يهابه ولا يتخوفه، ويصطدم بالاستعمار وجنوده بلا تردد، ويتقدمه بعض هؤلاء الأبطال صاخبين مهللين وما هي إلا خطفة البرق،