بل هو يلقى المؤرخ بقدر هائل من الطبائع الإنسانية المتآلفة والمتنافرة، والمتآخية والمتناحرة، والمتفقة والمتناقضة، والظاهرة والغامضة، فلا معدَى له عن لقائها بقدر مثله من نفسٍ تراحبَ إدراكها للطبائع والسجايا والأخلاق. ومادامَ الأمرُ قد انتقل من المقاييس المحدَّدة الضابطة، إلى إدراك الطبائع الإنسانية البعيدة الغوْر، الخفية السرِّ، المتباينة الصور، بقدْر تباين صور البشر وألوانهم وأشكالهم وألسنتهم وأصواتهم وأهوائهم ونوازعهم -فقد انتقل المنهاج كله من التحديد الضابط الى التشتت المفزع الذي لا تدْري ماذا تأخذُ منه أو تَدع. فلا مناص إذن لأي عاقل بعض العقل من الرجوع الى شيء لا يختلف، يقومُ على أصل صحيح من هذا التقدير المخيف لاختلاف الطبائع، ومهما التمس الإنسان شيئًا يَفي بضبط هذا القدْر من التباين المتفجر، فهو خليقٌ ألا يجده. فإذا أثبته العجز عنه فآثر أن يغفله لمجرد شهوة يشتهيها، وهي أن يكتب للناس ويؤرخ لهم، فهو عندئذ خليقٌ أن يضلَّ في تقديره، وفي تصوّره، وفي حكمه، وصار كل ما يأتي به رجمًا وظنونًا وأهواءً وعبثًا وافتراءً وتكذبًا واقتفاء لما ليس له به علم: وهذا الذي كان.
وليس على الأرض العاقلة شيء يمكنُ أن يعدَّ ميزانًا عادلا لهذه الطبائع البشرية التي وصفنا، إلا ميزان واحدٌ لا غير، هو الذي أنزلهُ ربُّ العالمين إذ يقول:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[سورة الحديد: ٢٥].
واهتداء البشر بالكتاب، وفقههم لمعانيه، واتخاذهم الميزان الذي أنزله الله على أنبيائه ورُسله، أصلا يتعايشون به في حياتهم ويتحاكمون إليه في النظر والفكر، وفي العلم والفقه، وفي المعرفة والتقدير، وفي القياس والاستنباط، هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن لصاحب الرأي أن يكون رأيه قريبًا من الحقّ، ويكون منهاجه قادرًا بعضَ القدرة على لقاء هذه الكثرة الجياشة من الاختلاف. فإن منزل الميزان للناس ليقوموا بالقسط، هو الذي خلق الناس مختلفين، وجعل لهم هذا الميزان بإزاء هذا الاختلاف.