بضابط لم يوجد مثله في تاريخ البشر: تقوى الله، والتوبة إلى ربّ العالمين. فقاموا بذلك كله إذ ألزمهم ربهم كلمة التقوى في السر والعلن، وعادوا إليه من عند زلاتهم توابين مستغفرين بالأسحار، وعاشت هذه الأمة المنفردة في تاريخ الجنس البشريّ، وأنشأت تاريخها برضى الله عن بعض عملها، وغضبه على بعض، وبعقابه لبعض أهلها ومغفرته لبعضٍ، ولم يجعلهم ربهم أمة معصومةٌ من خطإ، ولكنهم يخطئون ويتوبون ما انفسحت آجالهم، يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة، فيرحمهم ربُّهم ويتوب عليهم، ويعاقبهم ببعض ذنوبهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}[سورة فاطر: ٤٥].
فمن غير الممكن، وأكادُ أقول إنه المستحيل، أن يطيق إنسانٌ لم يتأدَّبْ بما تأدبوا به في أنفسهم، وبما صار به تاريخهم تاريخًا فيه مشابه من تواريخ الأمم، ولكنه مختلفٌ عنها كل الاختلاف -أن يكون مصيبًا أو مقاربًا للصواب، أو خليقًا بأن يدرك بعضَ الصواب، إذا هو أرادَ أن يكتب تاريخهم على النهج الذي نعرفه اليوم من كتابة التاريخ، والذي تُرمى فيه الأحكام جزافًا بلا تقوى ولا ورع، ولا مخافةٍ من ظنّ السوء، ولا هيبة من بهت الناسِ بما ليس فيهم، ولا تأثم من الاجتراء على غيب لا يعلمه إلّا العليم الخبير. والذي لم يجرّبْ هذه الآداب في سريرة نفسه، غير مستطيع أن يدرك مأتَى أعمال هؤلاء الناس، ولا مقاطع أحكامهم، ولا سيرة حكامهم، ولا طبيعة حياتهم، بل هو خليق أن يخلط ما جرى في حياتهم وأيامهم، بما جرى في حياة غيرهم وأيامهم، وأن يحكم على الذي كان يجرى بينهم سهلا يسيرًا منظورًا إليه بما ينظر به إلى مجرد الاختلاف في الرأي، حكما جازمًا قاطعًا مدمرًا، كأن الله وَكَّلَ إليه الاطلاع على سرائر خلقه، وفوض إليه أن يقضى فيهم بقضائه:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[سورة آل عمران: ١٢٩].