وزمهريرها، وبنورها وظلامها، وبصحوها وغيومها، وبصفاء أيامها وغبارها، لا تمشي على صورة ناضرة حتَّى ترد نضرتها إلى ذبول كئيب وتحيل إشراق لونها إلى شحوب مفزع. ومع ذلك فأنا مطالب اليوم أن أرفع إلى عينيك وإلى أعين الأجيال الحديثة بعد خمسين سنة، صورة كانت على إبانها صورة حية غربية مذهلة! ومن لي بأن أؤدى ما أنا مطالب بأدائه؟ ولكن لا مناص ولا مهرب.
وهل تدري لماذا أقطع حديثي وأقول لك هذه الكلمات؟ لا أظنك تدري، لأنك لم تكن حيا منذ خمسين سنة، ولو كنت حيا يومئذ، ولم تكن قادرا على استيعاب زمانك استيعابَ يقظة، لا استيعاب لجاجة ودعوى وسفسطة لبقيت أيضًا لا تدري شيئًا، وسأحاول أن أقرب لك الأمر ما استطعت حتَّى تعلم لم قلت لك هذه الكلمات.
أن هذه الصورة الغريبة المذهلة، التي توهجت بألوانها في مصر، ثم في أضيق من ذلك:"في كلية الآداب"، ثم في أضيق من ذلك. في "قسم اللغة العربية" من كلية الآداب، ثم في سنوات قلائل: سنة ١٩٢٥ وما بعدها، لم تكن صورة على رقعة أفردت لها خاصة، بل كانت صورة صغيرة جدا، صغيرة جدًّا لا تكاد ترى من بعد قريب، وهي في حيز رقعة واسعة مترامية الأطراف، ما بين تخوم المغرب الأقصى، إلى النهاية حدود الصين، ومن أعلى حدود تركية إلى أقاصي الأطراف في بلاد أندونسية أي في الرقعة التي يقع عليها اسم "العالم العربي" و"العالم الإسلامي" معا، وليس هذا فحسب، فهناك أبعاد أخرى غير أبعاد المكان وهي أبعاد الزمن أي أقصى تاريخ هذه الرقعة منذ بدأت إلى العصر الجاهلي، إلى عصور الإسلام الَّذي نعيش فيه.
ودعني أسألك كما سألتنى: هل أكون صادقا إذا أنا اقتصرت على أن أرفع لعينيك هذه الصورة الغريبة المذهلة، مقتطعة من جوف هذه الرقعة المترامية الأطراف في الزمان والمكان، لا لشيء إلا لكي أحيي ذكر طه حسين في هذه المناسبة التي حدثتنى عنها، مؤديًا بذلك بعض حقه على؟