للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بنفسي، ولا منفذا إلى برد اليقين في نفسي، إلا طرح الاستهانة بخطر اللغة، وخطر الألفاظ والتراكيب التي تجرى على الأقلام والألسنة سهلة واضحة كل الوضوح فيما نتوهم. وهذه الاستهانة داء قديم عند البشر، ولكنها كانت عند أسلافنا -رحمهم الله-، محدودة بحدود صارمة من الجد والإخلاص للعلم والمعرفة، لم تمنع عنهم شر خطرها كل المنع، ولكنها كفت منه: وهيأت لفئة منهم أن تكون ظاهرة بالحق على سائر الفئات الأخرى التي استهانت بخطر المبهمات والمتشابهات، كالمتصوفة والمتكلمين وغيرهم فضلّوا وأضلوا، كما قلت.

أما اليوم، فيؤسفني أن أقول لك، أيها العزيز، أن أكثر هذه الحدود الصارمة التي كانت عند أسلافنا، قد طمست وأمحت معالمها، بإعراضنا عما كان عتدهم، واستخفافنا بما كانوا يلتزمون به استخفافا مزريا بنا وبهم جميعا. ومن أخطر ذلك سُنَّة الاستهانة الجامحة باللغة، وبالألفاظ، وبالتراكيب ودلالاتها على المعاني، ثم إهدارها جميعًا إهدارًا كاملًا، واطراح التدبر والتأمل في المبهمات والمتشابهات اطراحا طائشا أحيانا. هذه السُّنة، هي إحدى السُّنن التي سَنَّها "الأساتذة الكبار" في حياتنا الأدبية، واستشرى الأمر وتفاقم على مر السنين، وتكاثرت الجراثيم الفتاكة، وعز الطبيب المداوى، وأصاب جيلنا "طريقا نافذا فسَلَكَ" (١)، وقد تخفف من كل عبء يعوق حركته من حد أو التزام أو معاناة، أي تحرر من كل قيد يقيده. وحين أقول "حياتنا الأدبية" فإني لا أعني الأدب وحده، أو الشعر وحده، بل أعني كل ما كانت "الكلمة" أصلا فيه من أدب وشعر ودين وفلسفة وعلم، إلى آخر هذه السلسلة المتشابكة.

ولذلك، فهي قضية يطول شرحها، كما ترى أيها العزيز، ولكنك وقفت معى ولم يأخذك فيها الملل أو التبرم بي، ولم تستحوذ عليك سُنَّة من سُنن "الأساتذة الكبار" في إهدار الألفاظ ودلالاتها، والاستهانة بها وبخطرها،


(١) جزء من عجز بيت لأيى العلاء، استشهد به الأستاذ -رحمه الله- في المقالة السابقة ص ١١١٦.