للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المختلفة. يضاف إلى هذا أننا، نحن البشر، لا نرتاب أقل ارتياب في أن "اللغة" هي أداة التفكير، وأداة البيان. هذه حقيقة واقعة لا يختلف فيها أحد. ولكننا بالتدبر والتأمل نعلم أن "ألفاظ اللغة"، أي لغة كانت، ليست محددة المعاني تحديدا قاطعا حاسما في كل لسان، وعند كل أحد، وفي كل زمن من أزمنة هذا اللسان = ونعلم أيضا أن "تركيب ألفاظ اللغة"، وهي الجمل وأساليب دلالتها المختلفة، ليست هي الأخرى محددة تحديدا قاطعا حاسما واضحا في كل لسان، وعند كل أحد، وفي كل زمن من أزمنة هذا اللسان. ومعنى ذلك أن ادعاءنا أن "اللغة هي أداة التفكير. وأداة البيان، قضية غامضة، قضية موهمة، قضية إذا امتحنتها وجدتها غير مطابقة للواقع"، ومع ذلك فنحن بهذه "اللغة" نفكر، وبها نتفاهم! قضية مشكلة! ولكن هكذا كان، وهكذا خلقنا! وأنا أحب أن أعفيك، أيها العزيز، من المشقة، فأحيلك على ما كتبته في كتابي "أباطيل وأسمار" (ص: ٥١٤ - ٥١٧ وما بعدها)، حيث قلت ذلك في حديث طويل عن "اللغة"، وعن لفظ "الدين" وغيره من الألفاظ، أحيلك أيضا إلى ما أشرت إليه في مواضع متفرقة من الكتاب، تقوم على هذا الأصل من الرأي. فلو أذنت متفضلا فاطلعت عليه، لكان ذلك عونا لنا على ما نتلمسه أنا وأنت من الحق تلمسا.

وأنا أحدثك عن نفسي، فأنا منذ حاولتُ تلمُّس طريقى في المسالك الوعرة الشائكة التي قذفت بي فيها المقادير المقدرة، أطبقت عليّ الشكوك والريب في معاني الألفاظ التي نستعملها والتي استعملها من قَبْلُ أسلافنا، وفعلنا ذلك، وفعلوا بلا مراجعة، لوضوحها فيما نظن. يومئذ لم يكن لي مطلب سوى مطلب واحد، هو أن أجد برد اليقين في نفسي في شأن "الشعر الجاهلي"، وفي شأن ما نسميه "إعجاز القرآن"، كما قلت في كتابي، (المتنبي: ١: ٤٧، ٤٨). ويومئذ تبينت لي مشكلة "اللغة" ومتشابهاتها ومبهماتها تبينا كاملا، حين وقعت في حومة الاختلاف بين المختلفين، وأطبقت عليَّ الشكوك المدمرة، وتنازعتنى هذه المتشابهات المبهمات حتى كادت تمزقنى، فلم أجد لي سبيلا إلى النجاة