للدلالة على تكرار عمل اللسان في "الذوق" مرة بعد مرة، طلبا لدقة التعيين والتمييز في الطعم والنكهة. و"النكهة" من عمل الأنف لأنها تتبين الرائحة مع الطعم. وهذا حسبنا من التماس البركات، والتعرض للنفحات. وعسى أن أكون قد وفقت بعض التوفيق فيما كتبت آنفا، فإن أحد أسباب كتابته أنى أردت أن أزيل الغموض عن الصفات التي وصفت بها لفظ "التذوق" في أواخر مقالتي السالفة، حيث قلت:"إن التذوق معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا، يعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد، ولكنه على كل حال حاسة لا غنى عنها للإنسان" = وحيث قلت أيضا: "إن التذوق لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب، يقل ويكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام والدربة، وترهفه جودة المعرفة، والصبر على الفهم، والمجاهدة في حسن الإدراك". فلعله صار واضحا بعض الوضوح ما أردته بقولي إنه "معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا"، وبقولي:"إنه لفظ مبهم مجمل الدلالة".
وهذه الألفاظ التي تدل على حدث مبهم غير متعين ولا متميز، هي في طبيعتها ذات نماء سابغ متوهج، وذات غنى مفعم وثراء مكنوز، ولكنها أيضا، وهو ما يهمنى هنا، ذات خطر مرهوب على جميع مذاهب القول والفكر والنظر. فإن فيها من القوة الغامضة ما يجعلها قادرة قدرة مطلقة على تضليل المتكلم والسامع جميعا، وهي التي تتيح لفكرة "التأويل"(أعني تأويل اللفظ المفرد والكلام المركب، وإخراجه من معنى ظاهر إلى معنى باطن) = أن تسيطر سيطرة كاملة على العقل أحيانا. وهذه القوة الغامضة، والقدرة المطلقة على التسلط، كانت ولم تزل من أكبر أسباب ضلال المتصوفة والمتكلمين والفلاسفة وأشباههم، فيها ضلوا وأضلوا، وهي أيضا العامل الحاسم أحيانا في توسيع هوة الاختلاف بين المختلفين في الرأي وفي تفسير الألفاظ والتراكيب، لأنها تعين على تشقيق الكلام وتفريعه تفريعا يغرق الاختلاف في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض من الأهواء ونوازع النِّحَل