للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معنى ذلك، أنها حين تمارس إنشاء الكلام وتركيبه، تحمل الأحرف والكلمات والجمل والتركيب ومعاطف المعاني التي تبين عنها أمشاجا متداخلة من الدلالات، ثم تفصل عنها حاملة آثارا مفصحة، أو مستكنة، أو عالقة، أو ناشبة في ثنايا الكلام وفي طواياه وفي أغواره، دالة دلالة على ما يتميز به صاحبها من أعمال الغرائز والطبائع والسجايا والعواطف والأهواء والنوازع، قديمة أو متجددة، ظاهرة أو باطنة. لا، هذا جزء يسير من عملها وخصائصها. فأكبر من ذلك أن هذه القدرة الخارقة الغامضة الغريبة المطيقة للتشكل، قادرة على أن تعبئ نفسها تعبئة صالحة للدلالة -بالأحرف والكلمات والجمل والتراكيب- على هيئة صاحبها وحركته وشمائله وسمته وعلى مئات من السمات الظاهرة والخفية التي يتميز بها صاحبها، تفصل عنها مغروسة في الكلام، ومغروسة أيضا في المعاني أحيانا.

وإذن، فهذه القدرة حين تلتمس هذه الآثار في كلام أتاها من خارج، فهي تمارس عملا خاطفا لأول وهلة في الاهتزاز له، ثم تبدأ تقلب وتفلى وتتدسس في الثنايا والأغوار، وتتحسس ذلك مرة بعد مرة، فترتاح ارتياحا لمهارة أختها الأخرى، أو ترضى رضا، أو ترفض، أو تنفر. فإذا فتر سلطانها في الحلقة المفرغة، اهتبل "العقل" هذه الفترة، فجاء بسطوته ليفرض سلطانه على الحلقة المفرغة، وشرع يفصل ويبين ويميز، ثم حكم، مستقلا بالحكم. فإما رضيت صاحبتنا عن حكمه أو أنكرته.

فهذا طرف من حديث "الاستبانة"، حين توقفت يومئذ عنده متثبتا. ولكني وجدت اللفظ غير كاف في الدلالة، ووجدت أهل زماننا قد أكثروا من ذكر "تذوق الجمال" و"تذوق الموسيقى"، "تذوق الشعر"، و"تذوق الفن"، فرأيته أحسن دلالة على ما تفعله "القدرة على البيان" من لفظ "الاستبانة" فآثرته عليه. وقد سألتنى أن أجد مكانا صالحا أقف عنده من حديثي هذا، فكأنه الآن أصلح مكان للتوقف، ثم أتابع القول في "التذوق" فيما بعد إن شاء الله. وأنا أرجو أن أكون قد استطعت أن أتبين بعض مدب أقدامى في هذا الطريق الموحش القديم، وأرجو أيضا أن أكون صادقا فيما عبرت عن نفسي، أو قصصته.