للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فورها في تقليبه وتفليته والتدسيس في ثناياه وفي أغواره مرة بعد مرة. تتحسس ما أنشأه غيرها من أحرف وكلمات وجمل وتراكيب، بما أنست هي من القدرة والدربة على إنشاء مثله وتركيبه. وهذا عمل خفي غامض موغل في الغموض، تَعْسُر الإحاطة به أو تفصيله -ولكن أحدنا، إذا هو أطال تأمل ما يختلج في نفسه حين يسمع، مثلا، شعرا بارعا، أو يعيد ترديده في نفسه، أو يقرؤه على مُكْث مرة بعد مرة، فإنه واجد وجدانا خفيا حركة خفية من عمل هذه القدرة، نابضة في أقصى حسه. فإذا ألح، استبان له بعض عملها استبانة لا تكاد تخفى أحيانا.

فما الذي تطلبه هذه القدرة حين تشرع في "استبانة" الكلام الذي جاءها من خارج؟ هي الآن لمَّا تزل صاحبة السلطان الأعظم على جميع قُوى الحلقة المفرغة التي تعمل معها تحت سلطانها، وعلى رأسها "العقل". أكبر الظن أنها تطلب أول ما تطلب، أثر أختها وضريعتها عند الإنسان الآخر في هذا الكلام، في أحرفه وكلماته وجملة وتراكيبه التي تم التعبير بها عن معان متعانقة جالت في نفس صاحبها. وصاحبتنا تعلم علما ليس بالظن: أن الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب تنشأ عندها هي عن آلاف مؤلفة، وحشود حاشدة، وجماهير غفيرة، وموج لُجّى من أعمال الغرائز والطبائع والسجايا والشيم والشمائل والعواطف والشهوات والأهواء والنوازع، جموع بعد جموع تجيش في نفس صاحبها، من بين ثائر متفجر، وهامد الأنفاس. كلهم له عليها حق لازم، لأنه جزء لا يتجزأ من ضمير صاحبه وغيبه وحقيقته التي يتميز بها وينفرد عن سائر إخوانه من البشر. كلهم يطالبها أن تستعد للبيان عنه إثباتا لوجوده. وهي لا تملك إلا أن تستجيب لكل طالب حق. واستجابتها أن تتهيأ هيئة تعين على تميز صاحبها وانفراده عن غيره، وتعبئ قدرتها على الإنشاء والتركيب تعبئة تجعلها عند الحاجة صالحة للدلالة على كل منهم، وعلى وجوده أو حضوره. فكذلك تصبح "قدرة على البيان" متميزة بالدلالة على ضمير صاحبها وغيبه وحقيقته التي ينفرد بها عن غيره من البشر.