للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت آنفا، وأنهما قدرتان توأمان متداخلتان لا سبيل إلى تمييز إحداهما من الأخرى إلا بآثارهما فيما يصدر عنهما من الكلام، وأن تخليص إحداهما من الأخرى أمر ممتنع امتناعا حاسما على كل طامع. فعندئذ آثرت أن أدمجهما معا في كلام واحد دال على قدرة مركبة، وأن أُغلِّب الأجلَّ الأعظم، وهو لفظ "القدرة على البيان"، اختصارا، وفرارًا أيضا من التثنية لغير ضرورة ملزمة، وأكبر من ذلك، إيثارا لما امتن الله به على عباده حيث قال: {الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [سورة الرحمن: ١ - ٤].

ولما بلغت هذا المبلغ تأملت المراتب الثلاث التي ذكرتها آنفا، فوجدت أن لهذه القدرة المركبة الخفية المندمجة في الحلقة المفرغة، وهي "القدرة على البيان"، عملين يتجاذبانها: الأول عملها في إنشاء الكلام وتركيبه وإذاعته، وهذه هي "الإبانة"، والثاني عملها في استقبال الكلام المسموع الآتي من خارج، ثم تقليبه وتفليته والتدسس في ثناياه وفي أغواره مرة بعد مرة، وهذه هي "الاستبانة". وهي تعمل هذين العملين، والسلطانُ في الحلقة المفرغة سلطانُها الأعظم. فإذا ما أصابت هذا السلطان فترة أو وَهْن، انبعث العقل بسطوته يبسط سلطانه على الحلقة المفرغة مستقلا بالتبين والتمييز، منتهيا لإصدار أحكامه على هذا الكلام: وصارت هي من أعوانه في عمله كما كان هو من أعوانها قبل في عملها. فإذا أصدر حكمه فهي بإحدى المنزلتين: إما أن تقبل حكمه بالاستحسان أو الاستهجان طائعة راضية مستبشرة = وإما تسخط هذا الحكم بالاستحسان، أو الاستهجان وتألف أن تطيعه، وتستعلى عليه أحيانا بكبريائها، متهمة إياه بالتقصير في التبين والتمييز.

لما بلغتُ هذا المبلغ رأيتنى محتاجا إلى التوقف طويلا، متثبتا من أمرى في شأن "الإبانة" و"الاستبانة". أما "الإبانة"، فلها عندي حديث طويل متشعب، وفي الحديث عن "الاستبانة" طرف منه مجزئ، و"الاستبانة" كما قلت "هي العمل الثاني الذي تزاوله القدرة على البيان"، حين تتهيأ هذه القدرة لاستقبال الكلام المسموع الآتي من خارج، وتهتز له حين تتلقاه، ثم تشرع من