المرصفي، فإنه، بعد الله سبحانه، هو الذي هدانى وسدد خطاى على أول الطريق. كانت للشيخ -رحمه الله- وأثابه عند قراءة الشعر وقفات، يقف على الكلمة، أو على البيت، أو على الأبيات، يعيدها ويرددها، ويشير بيديه وتبرق عيناه، وتضيئ معارف وجهه، ويهتز يمنة ويسرة، ويرفع من قامته مادًا ذراعيه، ملوحا بهما يهم أن يطير، وترى شفتيه والكلمات تخرج من بينهما، تراه كأنه يجد للكلمات في فمه من اللذة والنشوة والحلاوة يفوق كل تصور. كنت أنصت وأصغى وأنظر إليه لا يفارقه نظرى، ويأخذنى عند ذلك ما يأخذنى وأطيل النظر إليه كالمبهوت، لا تكاد عيني تطرف وصوته يتحدر في أقصى أعماق نفسي كأنه وابل منهمر تستطير في نواحيه شقائق برق يومض إيماضا سريعا خفيفا ثاقبا. أيام لم يبق منها إلا هذه الذكرى الخافتة! فإذا كف عن الإنشاد والترنم أقبل يشرح ويبين. ولكن شرحه وتبيينه لهذا الذي حركه كل هذا التحريك، كان دون ما أحسه وأفهمه ويتغلغل في أقاصى نفسي من هيئته وملامحه وهو يترنم بالشعر أو يردد، كان دون ذلك بكثير، وكنت أحس أحيانا بالحيرة والحسرة تترقرق في ألفاظه وهو يشرح ويبين، كأنه كان هو أيضًا يحس بأنه لم يبلغ مبلغا يرضاه في الإبانة عن أسرار هذه الكلمات والأبيات. هكذا كان شأن الشيخ -رحمه الله-، أي علَّامة ذوَّاقة كان!
هكذا حال الشيخ كان في بيته، وأنا أقرأ عليه الأدب والشعر يومئذ وحدى. أما حاله وهو يلقي دروسه العامة التي يحضرها الجمع من طلبة العلم، والتي كان يحضر أمثالها من قبلنا الدكتور طه قديما فيمن يحضر دروسه في الأزهر، فكان مختلفا كل الاختلاف. كان ملتزما بالجد والوقار يتخللهما دور قليل من مزاح لاذع جارح أحيانا، ولكنه كان لا يقصر في الإبانة والشرح، ولا في التوقف عند الأبيات أو الكلمات الجياد الحسان المحكمة، فهذا موضع الفرق بين الذي أخذته أنا عن الشيخ، والذي أخذه عنه الدكتور طه، وما كان على كل حال بقادر أن يأخذ عنه ما أخذت، فإن الذي أخذته عنه وأحدث في نفسي ما أحدث، لا يبلغ السماع بالأذن منه شيئًا، لأنه وليد المشاهدة والعيان، لا وليد الألفاظ والكلمات! ما علينا أيها العزيز.