لا أثوابا تُلقَى على الميت لتنشره مرة أخرى حديثا يُؤْثر وخبرًا يُرْوَى وعملا يتمثل وكأنْ قد كان بعد إذ لم يكن.
وهذا كتاب يقدّمه "سعيدٌ" إلى العربية وقرّائها، يجعله كالمقدّمة التي لابد منها لمن أراد أن يعرف أمر الرافعي من قريب.
لقد عاش الرافعي دهرًا يتصرف فيما يتصرف فيه الناس على عاداتهم، وتُصَرِّفُه أعمالُ الحياة على نهجها الذي اقتسرتْه عليه أو مهدته له أو وطَّأت به لتكوين المزاج الأدبيِّ الذي لا يعدمه حيٌّ ولا يخلو من مسِّه بشرٌ.
وأنا -مما عرفت الرافعي -رحمه الله- ودنوت إليه ووصلت سببًا مني بأسباب منه- أشهد لهذا الكتاب بأنه قد استقصى من أخبار الرافعي كثيرًا إلى قليل مما عُرِف عن غيره ممن فرَط من شيوخنا وكتابنا وأدبائنا وشعرائنا؛ وتلك يدٌ لسعيد على الأدب العربي، وهي أُخرى على التاريخ. ولو قد يَسَّر الله لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقًا وفيًّا ينقله إلى الناس أحاديثَ وأخبارًا وأعمالا كما يسَّر الله للرافعي، لما أضلَّت العربية مجدَ أدبائها وعلمائها، ولما تفلَّت من أدبها علمُ أسرارِ الأساليب وعلمُ وجوه المعاني التي تعتلجُ في النفوس وترتكض في القلوب حتى يؤذَن لها أن تكون أدبا يصطفى وعلما يتوارث وفنًّا يتبلّجُ على سواد الحياة فتسفر عن مكنونها متكشِّفة بارزة تتأنق للنفس حتى تستوى بمعانيها وأسرارها على أسباب الفرح ودواعي السرور وما قبلُ وما بعدُ.
والتاريخ ضربان يترادفان على معناه، ولكل فضل: فأوله رواية الخبر والقصَّة والعمل، وما كان كيف كان وإلى أين انتهى؛ وهذا هو الذي انتهى إلينا من علم التاريخ العربي في جملته، وعمود هذا الباب صدقُ الحديث، وطولُ التحرّى والاستقصاء والتتبع، وتسقُّط الأخبار من مواقعها، وتَوخِّى الحقيقة في الطلب حتى لا يختلط باطلٌ بحق. وأما التاريخ الثاني فإيجاد حياة قد خرجت من الحياة، وردٌّ ميت من قبر مغلق إلى كتاب مفتوح، وضمُّ متفرق يتبعثر في الألسنة حتى يتمثل صورة تلوح للمتأمّل، وهذا الثاني هو الذي عليه العمل في الإدراك البيانى لحقائق الشعراء والكتاب ومَن إليهم؛ ومع ذلك فهو لا يكاد يكون شيئا إلا