بالأول، وإلا بقى اجتهادا محضا تموت الحقائق فيه أو تحيا على قدر حظ المؤرّخ والناقد من حسن النظر ونفاذ البصيرة، ومساغِه في أسرار البيان متوجها مع الدلالة مقبلا مدبرا، متوقيًا عثرةً تكبُّه على وجهه، متابعًا مَدْرجة الطبائع الإنسانية -على تباينها واختلافها- حثى يُشرف على حيث يملك البصر والتمييز ورؤية الخافي وتوهم البعيد، ويكون عمل المؤرخ يومئذ نكسة يعود بها إلى توهم أخبار كانت وأحداث يخالها وقعتْ، ويجهد في ذلك جهدا لقد غني عنه لو قد تساوقت إليه أخبار حياة الشاعر أو الكاتب واجتمعت لديه وأُلقيت إليه كما كانت أو كما شاهدها من صَحِبه واتصل به ونفذ إلى بعض ما ينفذ إليه الإنسان من حال أخيه الإنسان.
وبعدُ، فإن أكثر ما نعرفه من أدب وشعر في عصور الاندحار التي مُنيت بها العربية يكاد يكون تلفيقًا ظاهرًا على البيان والتاريخ معًا، حتى ليضل الناقِدُ ضلال السالك في نفق ممتد قد ذهب شعابا متعانقة متنافرة في جوف الأرض؛ ثم جاء العصر الذي نحن فيه فأبطلت عاميتُه البيانَ في الأدب والشعر من ناحية، ودلسهما ما أُغرى به الكثرةُ من استعارة العاطفة واقتراض الإحساس من ناحية أخرى؛ فإني لأقرأُ للكاتب أو الشاعر وأتدبر وأترفق وأترقى. . . وإذا هو عَيْبة ممتلئة قد أُشْرِجَتْ على المعاني والعواطف فلو قُطع الخيط الذي يشدّها لانقطعت كلُّ شاردةٍ نافرةً إلى وطنها تشتدّ؛ وبمثل هذا يخوض المؤرخ في رَدَغة مستوحِلة يتزلَّق فيها ههنا وثمّ، ويتقطع في الرأي وتتهالك الحقائق بين يديه حتى يصير الشاعر وشعرُه والأديب وأدبه أسمالا متخرِّقة بالية يمسح بها المؤرّخ عن نفسه آثار ما وحِل فيه!
وقد ابتُلى الأدبُ العربي في هذا العصر بهؤلاء الذين أوجفتْ بهم مطايا الغرور في طلب الشهرة والصيت والسماع، فخبطوا وتورّطوا ظلماءَ سالكُها مغترّ، وقد كان احتباسهم وإمساكهم عما نصبوا وجوههم له، واصطبارُهم على ذل الطلب، وممارستُهم معضلَ ما أرادوه، وتأنِّيهم في النية والبصر والعزم عسى أن يحملهم على استثارة ما ركبه الإهمال من العواطف التي تعمل وحدها إذا تنسمت روح