وحروف المعاني التي يتناولها هذا القسمُ الأوّلُ من جَمْهَرَةِ علم القرآن العظيم (١)، أَصْعَبُ أبوابِ هذه الْجَمْهرةِ، لكثرتها وتَداخُلِ معانيها. فقلّ أن تخلُوَ آيةٌ من القرآن العظيم من حرْفٍ من حروفِ المعاني.
أمّا المشقَّةُ العظيمةُ، فهي في وجوهِ اختلافِ مواقع هذه الحروفِ من الْجُمَلِ؛ ثمّ اختلافِ معانيها باختلافِ مواقعِها، ثمّ ملاحظةِ الفروقِ الدقيقة التي يَقْتضيها هذا الاختلافُ في دلالته المؤثِّرةِ في معاني الآيات. وهذا وَحْدَه أساس عِلْمٍ جليل من علوم القرآن العظيم.
وسترى في هذا القسم العَمَلَ المُتْقَنَ الذي تولّاه أستاذنا الجليل، مواضِع كثيرة من الاستدراكِ على النحاة منذ سيبويه إلى ابن هشام، ولكن ليس معْنَى هذا أن نَبْخَس الشُّيُوخَ الأوائلَ نَصِيبَهم من التَّفوُّقِ الهائلِ الذي يُذْهِل العقول، ولكن مَعْناه أنّ الأساس الذي أَسَّسوه في أزْمِنَتهِم المتطاولةِ كان ينْقُصُه هذا الْحَصْرُ الدقيق لكلِّ ما في القرآن العظيم من حروفِ المعاني، وكان هذا الْحَصْر خارجا يومئذٍ عن طاقَتهم، فإن الذي أعان عليه هو الطباعةُ التي استحدثت في زماننا. والناظر في كُتُبِ القدماء لا يُخطئه أن يرى أنّهمِ قاموا بِحَصْرٍ غير تامٍّ، بيْدَ أنّ هذا القَدْرَ الذي قاموا به هو في ذاته عَملٌ فوق الجليلِ وفوق الطاقةِ.
ويظنّ أستاذنا الشيخ عضيمة أنّ الأوائلَ قد شَغَلَهم الشِّعْرُ عن النظَر في شواهدِ القرآن العظيم، وأظنّ أنّ الذي تولّاه أستاذنا من حصْرِ هذه الأشياءِ في القرآنِ العظيم، وتنزيلها في منازِلها من أبواب علْم النحو وعلْم الصرف، وعلْم أساليب اللغة، مقدّمة فائقةُ الدلالة، لعَمل آخر ينبغي أن تتولّاه جماعةٌ منظَّمةٌ في حصْرِ ما في الشِّعْرِ الجاهليّ والإسلاميّ من حروفِ المعاني، ومن تصاريفِ اللغة، ومن اختلافِ الأساليب ودلالتها. والذي ظنّ الأستاذ أنّ القدماء قد فَرَّغوا هِمَمَهُمْ له، هو في الحقيقة ناقصٌ يحتاج إلى تمامٍ، وتمامه أن يُهيِّئَ الله للناس منْ يقوم لهم في الشِّعْرِ بمثلِ ما قام به هو في القرآن العظيم.
(١) "الجمهرة": هذه اللفظة وضحتها لما نسميه في هذا الزمان "دائرة المعارف" أو "الموسوعة" (شاكر).