وإذا تمّ هذا كما أتمّ الشيخ عَملَه في القرآن العظيم، فعسى أن يكونَ قد حان الحِينُ للنظَر في "إعجاز القرآن" نظرًا جديدًا، لا يتيسّر للناس إلا بعْد أن يَتِمّ تَحليلُ اللغة تحليلا دقيقًا قائمًا على حصْرِ الوجوهِ المختلفة لكلِّ حرْفٍ من حروفِ المعاني، وتصاريف اللغة. لأنّ هذه الحروفَ وهذه التصاريف، تُؤثِّر في المعاني، وتُؤثِّر في الأساليب، وتُحدِّد الفُروق الدقيقةَ بين عبارةٍ وعبارة وأَثَرها في النفْسِ الإنسانيّة وأَثَر النفْسِ الإنسانيّة فيها، وفي دلالاتها.
وإذا كان أستاذنا الجليل قد تواضع فظنّ أنّه قد وضع أساسًا عِلْميًّا ثابتًا للحكْم على أساليب القرآن، وموقعها من النحو والصرف، فإني أظنّ أنّه قد فات ذلك وسبَقه، فهيّأ لنا أساسًا جديدًا للنظر في "إعجاز القرآن" نظرةً جديدةً تُخْرِجه من الْحَيِّزِ القديم، إلى حيِّزٍ جديدٍ يُعين على إنشاءِ "علم بلاغة" مسْتَحْدَثٍ. فإنّه مهما اختلف المختلفون في شَأْنِ "البلاغة" فالذي لا يمكن أن يدْخلَه الاختلافُ هو أَنّ تركيبَ الكلام على أُصولِ النحو والصرف، هو الذي يُحْدث في كلامٍ ما ميزةً يفوق بها كلامًا آخر. وهذا لا يتيسَّر معْرفَتُهُ إلّا بتحليل اللغةِ وتحليلِ مفرداتها وأدواتها، وروابطها، التي هي حروف المعاني، عَملٌ لا يُنْتَهى فيه إلى غاية، إلّا بعد الْحَصْرِ التامِّ للغة وتصاريفها، ولاسيما حروف المعاني، وبعد معرفةِ الفُروقِ الدقيقةِ التي تُحدثها هذه الحروفُ في مواقعها، وبعد معرفةِ أَثَر هذه الفروقِ في تفضيل كلامٍ على كلام.
والشيخ -حفظه الله- لم يترك مجالا للاستدراك على عمله العظيم. فكلّ ما أستطيع أن أقولَه، إنّما هو ثَناءٌ مسْتَخْرَجٌ من عَمل يُثْنِى على نفْسِه، ولكن بقي ما نتهاداه في هذه الحياة الدنيا، وهو أن أَدعُو الله له بالتوفيق، وأن يزيدَه من فَضْله، وأن يُعينَه على إتمامِ ما بدأَ، وأن يجعل هذا العمل ذخيرة له يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون.