صديق لنا كان أيضا محبا للكتب هو الشيخ محمود زناتى، فأخبرته عن خُلق زكي باشا أنه يسرق الكتب، فحاذِرْ. فقال:"كيف يعني؟ كيف يسرق الكتب؟ " قلت: "طَيِّب يا شيخ محمود، جرِّب بنفسك". فحدثني أن أحمد زكي باشا غافله في يوم من الأيام وأخذ كتابا ووضعه تحت إبطه وأخفاه -فقال له الشيخ محمود عند انصرافه:"تعالى يا باشا - طلع الكتاب". يسرق نفسه! كانت أخلاقا ظريفة.
ولقيت رجالًا كثيرين ممن يحبون المخطوطات بشغف زائد ولكن كان أغربهم رجل طويل القامة مستقيم. هذا لم يكن متعلما تعلُّما كافيا لكنه كان يجالس العلماء. وممن جالسهم طويلا وأحبهم الشيخ زاهد الكوثرى -رحمه الله- وكان علّامة خبيرا بالكتب، حافظا أسماءها ومواقعها، فاكتسب منه رشاد (١)، لأنه كان أيضا محبا للكتب. كان رشاد فقيرا فكان يدور على المطابع كلما رأى كتابا يُطبع أخذ منه ملزمة، فأخيرا انتهى إلى حب الكتاب المطبوع -وكان أيضا له ذاكرة قابضة باسطة لا تترك شيئا أبدا ولذلك كان يمشي بيننا وكأنه فهرس كامل لمطبوعات العالم. وصحبناه طويلا الى أن قضى نحبه -رحمه الله-.
وهكذا كان ينبغي أن أقدم رجلا عظيما أيضا وهو الشيخ محمد عبد الرسول. كان مديرا للمخطوطات في دار الكتب. وكان رجلا صامتا لا يتكلم. فإذا تكلم -إذا سألته سؤالا- تفجر بعلم واسع يستغرق كل هذه الكتب. لا يوجد في دار الكتب كتاب مطبوع لا يعرفه، ولا مخطوط لا يعرفه. وكان محبا أيضا للمخطوطات وحريصا عليها أشد الحرص، وأنا إلى الآن لا أمسك مخطوطا حتى أذكر هذا الرجل، لأنه علّمنى شيئا كثيرا جدا -أدناه أنه علمنى فروق الخطوط وأزمنتها سواء كانت مشرقية أو مغربية. لم يكن هذا همي، ولكن أحببت هذه المعرفة بحبي للشيخ عبد الرسول. تعلمت منه كيف أحكم على هذا المخطوط- كُتِب في القرن الكذا أو الكذا، خطوط متنوعة، خطوط البغداديين غير خطوط
(١) يعني الأستاذ رشاد عبد المطلب، -رحمه الله-، توفي سنة ١٩٧٥.