فيما بعد -بذلت فيه جهدى، وأنا لا أحب أن أُسَمَّى محققا لأسباب كثيرة، وإنما أنا قارئ كتب ولذلك لا أكتب على كتبى "حققه" فلان بل أكتب "قرأه" فلان؛ لأن المطلوب من نشر الكتب هو أن يكون الكتاب مقروءا حسب موضوعه، يهتدى الإنسان في قراءته إلى المعنى الذي أراده مؤلفه. أما طبقات فحول الشعراء فأنا في الحقيقة قرأته ثم شرحته شرحا وافيا. لأن هذا الكتاب عُمدة لا يَستغني عنه طالب علم. وهو أول كتاب أُلِّف في الإسلام في طبقات الشعراء وفي النقد أيضا.
ثم ذهب أمين أفندى الخانجى -رحمه الله-، وشببت عن الطوق، وعرفت رجلا آخر كان عالما متمكنا من علوم لا يعرف أحد أنه متمكن فيها، وهو أحمد تيمور باشا. كان فيما عرفته متمكنا من علم النحو تمكنا كاملا ولكنه لا يكتب فيه شيئا. لم يكتب فيه كلمة واحدة. فأحمد تيمور باشا كما وصفته -وهو عالم ناهيك من عالم- كان أحرص الناس على اقتناء المخطوطات، يبذل في سبيلها مالا كثيرا، ولكن الذي لاحظته -ليس جمع الكتب- الذي لاحظته شيئا آخر وهو أنه إذا أخذ الكتاب بين يديه، تغيرت أسارير وجهه واستضاءت، وكأن نورا قد سطع بمجرد إمساكه المخطوط، إذا جاءه أمين أفندى بمخطوط جديد. شيء هائل، تحس أن هذا الرجل ليس إنسانا -تتغير صورته من إنسان جالس يتكلم، إلى إنسان مأخوذ ومضئ في وقت واحد، وتبرق عيناه وكأنها لؤلؤة مضيئة أو درة يتيمة.
والرجل الثاني الذي عرفته ولقيته لماما هو أحمد زكي باشا شيخ العروبة. ولم يكن في مثل علم تيمور باشا. ولكنه كان أيضا محبا للكتب، فالصورة التي أراها في تيمور أراها في أحمد زكي. وكانا في حلبة المخطوطات يتسابقان، كلاهما يتتبع عمل الآخر وما اقتناه ويريد أن يفوقه. ولكن يختلف الخُلُقان: تيمور باشا كان سخيا لا يضن على أحد بشيء. أما أحمد زكي فكان ضنينا بالطبع -لا أريد المذمة- كان ضنينا وكان لا يتورع عن سرقة الكتاب. ومن الطرائف أنه في آخر حياته أوقف مكتبته ونقلت إلى مدرسة الغورى القريبة من الأزهر، وعُيِّن لها