أنه "منهج الشك" فقال فيما قال عن هذا المذهب بلفظه من كتاب الشعر الجاهلي "إن هذا المذهب سوف يقلب العلم القديم رأسا على عقب، وأخشى -إن لم يمح أكثره- أن يمحو منه شيئا كثيرا". وبينت ما قاله بعد ذلك مما يدل على الاستخفاف بكل شيء، وقيدته بنصه من كتاب الشعر الجاهلي. ثم شهدت بعد ذلك شهادتى على الجيل الذي أنا منه فقلت:
"والاستخفاف الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه معروف، أما الذي كان يقوله في أحاديثه بين طلبته، فكان استخفافه عندئذ يتجاوز حده حتى يبلغ بنا إلى الاستهزاء المحض بأقوال السلف، وأما الذي كان يدور بين طلبته الصغار "المفرغين" من ثقافتهم -كما قلت- فكان شيئا لا يكاد يوصف، لأنه كان استخفاف جاهل واستهزاء خاو، يردد ما يقوله الدكتور، لا يعصمه ما كان يعصم الدكتور طه من بعض العلم المتصل بهذه الثقافة، وعلى مر الأيام، كانت العاقبة وخيمة جدا"(المقدمة ص: ٤٠). ثم ذكرت كيف كانت العاقبة، حين كبر هؤلاء الصغار، وحاولو أن يزاحموا الاْساتذة الكبار (كالدكتور طه) في موقع الأستاذية فقلت: "ولكنهم لم يسيروا سيرة الأساتذة في معالجة القديم. . بل كان الغالب على أكثرهم هو رفض القديم والإعراض عنه، والانتقاص له والاستخفاف به، وعندئذ أحس الدكتور طه بالخطر، وهو الذي أضاء لهم الطريق بالضجة التي أحدثها كتابه، في الشعر الجاهلي"(المقدمة: ٤١). ثم قلت بعد ذلك مباشرة:
"كان إحساس الدكتور طه بهذا الخطر الذي تولى هو كبر إحداثه، ظاهرا جدًا، ففي يناير سنة ١٩٣٥ بعد تسع سنوات من صدور كتابه في الشعر الجاهلي -بدأ ينشر في جريدة الجهاد مقالات، . . كان محصلها رجوعا صريحا عن ادعائه الأول في سنة ١٩٢٦، الذي أعلنه في كتابه، وهو قوله: إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأصداءهم، أكئر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا، لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء".