للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ثم عاد إليّ يتنهد ويقول:

هكذا هي. . . أو هكذا كانت. . . أما هو. . .

وارتعشت الكلمات في نبراته وعلى شفتيه فأمسك وسكت، وكأنه عزم ألا يتم ما بدأ من حديثه عن الرجل. فخفت أن ينقطع عني دون خبره، وأردت أن أستفزه من حيث أعلم كيف أستنبط نبع حديثه، فعجلت إليه أقول:

أما هو -يا صاحبي! - فقد كان مجنونًا تنشيء له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي، و. . .

فانقض عليَّ بصوته يقول:

كلا، كلا! لا تقل هذا. ليس الأمر كذلك. لا تعجل عليه. إنك لا تعرفه، ولو عرفته فما أظنك تحسن فهم حياته التي يعايش بها الناس. سأحدثك عنه، لقد علمت أنك تريد أن تحملنى على ذلك، ولا بأس إذن. لا أقول لك إني فهمته، واستطعت أن أكشف لنفسي عن سر طبيعته، كلا! بل أقول لك إني لأحس بكل ما يعتلج في قلبه من آلامه، وكأنها عندي هي كل آلامي إنه رجل قد امتلأ حكمة من طول ما جرب، ومن عنف ما لقى من الأحداث التي نقضت بناء حياته مرة بعد مرة. نعم إنه لملء رجولته تجربة، ولكن. . . ولكني سأصفه لك على كل حال. سأحاول أن أعبر لك عن حقيقة معرفتي به. نعم! هو إنسان غامض مبهم محير، إذا صحبته رأيت من نقائضه التي تجتمع لك من أعماله وظواهره، ما يلتوي بفكرك فيه من هنا إلى هناك، حتى تجد وكأنما أنت تمشي منه في غمض من الأرض منكر قد درست صُواه (١) وعَفَت رسومه وجهلت معالمه. لا تهتدي فيه أبدًا إلى شيء تستطيع به أن تقول: هذا هو! هذه هي الفكرة. . .، هذا هو الطريق! !

سكت صاحبي قليلًا وقد طرح فكره في مذاهبه ثم عاد يقول: فلنعد إلى حديثنا إذن، لقد حملتني على أن أذهب بك بعيدًا. . . كذلك كانت هي كما


(١) الصُّوَى: علامات تقام في الطريق يهتدى به المسافر.