للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وصفتها لك بل أروع مما وصفتها، حين التقيا على غير موعد يتوقعه أحدهما. . . أما هو فكان يومئذ رجلًا ضربًا (١) متوقدا ثائرًا عنيفًا، لا يزال يتمزع من جميع نواحيه كأن في تجاليد شخصه روح وحش شارد لا يألف الحياة ولا هي تألفه. كان فكرة شامخة عاتية عضلة تأبى أن تتهضم لأحد أو تستذل. كان كالبركان في عنفوان فورته تتقلَّع به صواعقه وزلازله. وهكذا كنت أبدًا أعرفه، ولكنه كان مع كل ذلك يحب أن ينطوى على هذه العواصف التي تتقصف برعودها بين جنبيه، ومن أجل ذلك كنت أجد في عينيه أحيانًا بارقًا ساطعًا يتداركُ ويَتلهّبُ، حتى يجعل نظراته كأنها سياط من الأشعة يتضرم اللهب على عذباتها (٢). . . لا تعجب، فأشهد لقد خيل لي مرارًا أن نظرته هذه إنما تكوى من يتعرض لها أو من يجلده بها، حتى لأخشى أن تكون تترك فيه من آثارها أخاديد تنتفض كسَلَع (٣) النار على الجسد.

لا تعجل، ولا تشطط. لقد تعلم أنه كان -مع كل هذا الذي وصفت لك- إنسانًا وديعًا رقيقًا. كان قلبه خلاصة صافية ممثلة من الحنان والشفقة. ولكنه أصيب بأحداث كثيرة جعلته ظنونًا حزينًا، فهو لذلك يضن بما في قلبه أن يطلع على حقيقته الكاملة أحد من الناس. لم أر -فيمن رأيت من الناس- من هو أبعد منه مذهبًا في الاحتراس والحذر، ومع ذلك أيضًا، فلو أنك رأيته في بعض ساعاته لظننت أنه رجل غُمْر (٤) يختدعه عن نفسه كل أحد، ولكنه ليس كذلك. نعم، لقد كان هشا أحيانًا بين يدي من يتناوله. . . فإذا أُخِذ بالاعتناف والقسر، انقلب الذي فيه ضاريًا لا يطيق ولا يطاق.

هكذا كان أول ما تلاقيا. . .

ثم صمت صاحبي، وخيل إليّ أنه يضحك. لقد كان يخافت من ضحكه، كأنما هو يسخر، ورجع إليّ بعد قليل فواصل حديثه: كيف قلتَ في نعته؟ كان


(١) الرجل الضَّرْب: الممتلئ حيوية ونشاطا، هكذا وصف طرفة نفسه في معلقته.
(٢) عَذَبَةُ السَّوْط: طَرَفُه.
(٣) السَّلَع: آثار النار بالجسد.
(٤) الغُمْر: الغِرّ القليل التجارب.