المتعذب. . . صوت القدر الآتي من بعيد بأفراح السعادة. . . صوتها. . . صوتها. . . ذلك الصوت المعبر عن نفسها بألحان تتجاوب وتسرى وتموج في كل غيب من غيوب نفسه المتراحبة. . .!
إن كل هذه العواطف التي يرسلها إليه صوتها وهي تتكلم كانت تعبُّ فيه عُبابها، حتى يجد الأمواج النفسية تتقاذفه في فرح بعد فرح، ومن سعادة إلى سعادة، ومن حلم إلى حلم، كأنه ماض إلى جنّة الخلد في زورق من اللذات الطاهرة الجميلة، تحف به الملائكة تغنى لقلبه أناشيد المجد والخلود. . .! إنه سوف يسمو بروحه إلى ذلك الجو الذي يعطِّره النبل، ويفيئه الحب، وينديه الحنان، وتضيئه هي بسُنَّتها المشرقة، وتسبح فيه النجوى أنغامًا حرة تهيم وتتعانق.
جعلت أيامه معها تتهدل ثمارها الناضجة المغرية، وجعل يقتطف منها حيث أراد، وجعلت هي تغذوه كل يوم غذاءً جديدًا هنيئًا يملأ روحه قوة وشبابًا وعزمًا. جعل إحساسه بسحرها وفتنتها يغلو به في إيمانه بعبقرية أنوثتها الكاملة. أجل. . .، إنها أرسلت في دمه الحياة الجديدة، الحياة التي تجدد فكره في أشياء الدنيا، وتستفزه إلى فرض سلطانه على هذه الأشياء وكانت هي تنشيء لعينيه في كل يوم بل في كل ساعة دنيا مائجة، من فنها البليغ الذي يعبر عن ضميره تعبيرًا بليغًا كبلاغة أنوثتها فانبثقت في عينيه وفي قلبه ينابيع متفجرة من الأحلام الرقيقة، والأماني الطائرة، تلك الأماني التي تتنهد دائمًا على قلبه بأنفاس الفجر. . .
امتلأت عيناه الحائرتان بأحلام الشباب، وانبعثت القوة المتلهبة بالرغبة، فهو ينظر ثم يندفع إلى أمانيه يريد أن يختطف حظه من السعادة السانحة سنوح الصيد المستطرد، قبل أن تسبقه إليها أنياب الشقاء والألم والبؤس فتفترس منها وتنتهش. إنه يريد أن يظفر بسعادته ليتمتع بالحياة بعض المتاع، ولكن يا صديقي. . . إن هذه الغريزة المتحكمة في الإنسان وفي أعماله -غريزة التمتع بالحياة- هي التي تذهب بالإنسان في القدر مذهبًا بعيدًا إنها هي التي تجمل الحياة لعيني كل حي، ولكنها هي هي نفسها التي تعمى المحب فلا يبصر تلك الهوة السحيقة التي فغرت